17 سبتمبر 2025

تسجيل

الحكم من أمام الستار

04 سبتمبر 2013

جرى العرف في بلادنا أن تعمل النخب العسكرية من وراء ستار، فلا يكاد يعلم طبيعة نفوذها أحد، ولا يكاد يدرك كنه صلاحياتها أحد، فهي لا تكاد تفتح ملفاتها على الملأ، ولا تقبل أن تعامل معاملة سائر مؤسسات الدولة من حيث الخضوع للرقابة، فلدى رجال هذه النخبة قناعة بأنهم فوق المحاسبة، يساعدهم على ذلك أنهم يضعون أيديهم على القوة المسلحة التي تتضاءل أمامها كافة القوى، فضلا عن كونهم يمتلكون ولاء أتباعهم المطلق في إطار من التراتبية الصارمة التي لا تكاد تعرفها سائر المؤسسات الأخرى. وكذلك جرى العرف أن تتغاضى جماهيرنا عن هذه الطبيعة الغامضة للنخب العسكرية، على اعتبار أن ذلك مما يتناسب مع الخطورة "المفترضة" لما يقومون به من مهام. حتى ساد بين الناس ما يشبه القناعة بأنه لا مانع من أن تبقى هذه النخب بعيدة عن المساءلة والمحاسبة طالما ظلوا بعيدين عن السياسة واكتفوا بمواقعهم الحصينة خلف ستار الحكم. إلا أن هذه المعادلة سرعان ما تتغير عندما تقرر هذه النخب اقتحام المشهد السياسي وتسيطر مباشرة على الحكم، أي عندما تختار أن تنتقل من مؤخرة المسرح السياسي إلى مقدمته، فعند ذلك تصبح أقرب إلى عيون الجماهير، وتخضع بشكل أكبر لمراقبتهم ومحاسبتهم. وهذا كما لا يمثل وضعا مريحا للمحكومين فإنه لا يشكل وضعا مثاليا بالنسبة للعسكريين أيضا، فتصدرهم للمشهد السياسي يعني أن أخطاءهم سوف تظهر على نحو أوضح وأن ما يتمتعون به من تأييد شعبي سوف يتعرض للتآكل على نحو أسرع. ويبدو أن هذا هو حال النخبة العسكرية في مصر منذ انقلاب الثالث من يوليو. فقبل هذا الانقلاب كان كثير من المصريين راغبين وراضين أن تظل التفاصيل التي تخص هذه النخبة محاطة بالسرية اللازمة، صحيح أن البعض كان يتساءل عن ميزانيتها وعن سبب عدم خضوعها للرقابة، إلا أن معادلة "الأمن في مقابل الصمت" كانت تفرض على الجميع أن يبتلعوا ألسنتهم وألا يعلنوا ما يفكرون فيه. بل إنه في الوقت الذي كان ينظر فيه إلى مؤسسة الشرطة على أنها إحدى مؤسسات النظام القديم الذي قامت ضده الثورة، كان ينظر إلى النخبة العسكرية على أنها جماعة وطنية، لا تحسب على أي من القوى السياسية المتنافسة على الحكم. وقد ازداد تمسك الكثيرين بهذه القناعات عندما رأوا القادة العسكريين يعترفون بثورة يناير، ويضعون أنفسهم فيما بدا وقتها أنه موقف محايد بين الفرقاء السياسيين. صحيح أن هذه القناعات قد تخلخلت خلال فترة حكم المجلس العسكري، إلا أن الأعذار كانت عادة ما تلتمس للعسكر عن الأخطاء الكثيرة التي تسببوا فيها. وكانت هذه الأعذار من نوعية "أنهم غير مؤهلين للتعامل مع المدنيين"، و"أن وقوع الضحايا جراء الاشتباك معهم هو نتيجة غير مقصودة أو متعمدة من جانبهم"... إلخ. الشرخ الحقيقي تجاه هذه النخبة حدث بعد الانقلاب الأخير، فاقتحامهم للمشهد السياسي أطلق الألسنة والأسئلة، وأزال قدرا كبيرا من القدسية التي كان كثير من المصريين يخلعونها طواعية على نخبتهم العسكرية "المتجردة من الأطماع والتي لا تنحاز لأي فصيل على حساب مصلحة الوطن". فمنذ اللحظة الأولى من عمر الانقلاب ظهر انحياز القيادة العسكرية لفصيل دون آخر، وبدا واضحا أن للعسكر تفضيلاتهم السياسية، وأنهم ليسوا فوق الخلافات الحزبية كما كانوا يدعون، فقد اختاروا طرفا وعادوا الطرف الآخر، وحموا طرفا وسفكوا دماء الطرف الآخر، وأضفوا شرعية على طرف فيما دمغوا الطرف الآخر بالإرهاب والتطرف. فأصبحت النخبة العسكرية بفعل هذا الانحياز الواضح طرفا في العملية السياسية وليس مجرد مراقب لها، كما تحولت إلى أحد عوامل الفوضى بعد أن كان دورها المعلن هو حماية الاستقرار. الأهم أنه بدخول العسكر إلى ساحة السياسة فقدوا تقريبا معظم مزايا كمونهم وراء الستار، فقد صار لزاما عليهم أن يخرجوا على مؤيديهم عبر الإعلام وأن يتحدثوا إليهم عن خططهم وأهدافهم. ولكنهم كلما تحدثوا أكثر أخطأوا أكثر، فالكلام ليس حرفتهم، ومواجهة الجماهير ليست الفن الذي يبرعون فيه. حتى أصبحت القاعدة أن المزيد من تصريحات قادة الانقلاب سوف يسفر لا محالة عن المزيد من المشاكل. من ناحية أخرى أصبح الناس الآن أكثر فضولا لمعرفة ما يخص هذه القيادة الانقلابية التي فرضت نفسها عليهم بالقوة، فأطلقوا لأنفسهم العنان في التساؤل حول علاقتها بمؤسسات العهد القديم، ودورها في إطار الدولة العميقة، وهل كانت بالفعل تختلف عن مؤسسة الشرطة أم أنهم يمتلكون نفس العقيدة الأمنية؟ كما صار عوام الناس يتناقشون حول ميزانيتها وكيف تنفق، وعن المساعدات الأمريكية وفيم تخصص، وكيف يعاد تدويرها داخل الاقتصاد الخاص بهذه النخبة. وارتفع حاجز الجرأة فبدأ البعض في التساؤل حول ما إذا كان الأجدى أن تتحول المعونة التي تخصص لشراء سلاح لا يستعمل إلى شراء القمح أو بناء المصانع، وحول ما إذا كان ما تحتاجه البلاد هو المزيد من الأسلحة المعقدة أم الحصول على مساعدات مدنية ومنح لتدريب موظفي الدولة على نظم الحكم والإدارة. كما تفجرت تساؤلات تحاول أن تفهم سر الصداقة الغريبة بين أفراد من هذه النخبة ونظرائهم من قادة "العدو الصهيوني"، وعن تفسير خروج المتحدث باسم النظام الانقلابي على التلفزيون الإسرائيلي لكي يؤكد ما تقول به إسرائيل من أن المقاومة الفلسطينية هي تنظيم إرهابي. كل ما سبق يشير إلى معنى واحد وهو أن النخبة الانقلابية قد فعلت الأسوأ، ليس فقط بالنسبة للبلاد ولمستقبلها ولكن بالنسبة لهم ولمستقبلهم أيضا. فقد وضعوا أنفسهم تحت مجهر كانوا بمنأى عنه، وصار انتقادهم حقا مكتسبا بعدما كان مجرد التفكير فيه أمرا مستبعدا. لقد كان رصيد هذه النخبة لدى الجماهير نابعا من انغلاقها على نفسها وبعدها عن الأضواء، لكن أما وإنهم قد أبوا إلا أن يتصدروا المشهد السياسي فقد أصبح عليهم أن يواجهوا انتقادات لم يعتادوا على مواجهتها، وسخطا لا يتوقع أن يتمكنوا من إرضائه، خاصة في ظل أدائهم الحالي الذي تردى بالبلاد إلى أسوأ مما كانت عليه وقت أن قاموا بانقلابهم.