28 أكتوبر 2025

تسجيل

تأمـلات في الحـدث التـركي

04 أغسطس 2016

googletag.display('div-gpt-ad-794208208682177705-3'); googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1462884583408-0'); }); رغم أن الانقلاب العسكري تم عرقلته وإفشاله خلال الساعات الثلاث الأولى، إلا أن هذا لا يعني ضعف التخطيط له بقدر ما يعني وعي مؤسسات الدولة التركية الأمنية وغيرها وقوة استعدادها لحماية الدولة وحماية الشعب من أي مهددات مهما كانت. أثبتت الفيديوهات التي خرجت علينا مؤخرًا والتسجيلات وبعض الاعترافات عن قوة وشمولية الانقلاب والذي كان متغلغلًا في جميع مفاصل الدولة، لأول مرة في تاريخ تركيا أن يستعمل فيه سلاح الطيران لقصف منشآت مدنية ومؤسسات سيادية للدولة، وأن يقتل فيه مدنيين. تنظيميًا، لقد كان الانقلاب محكما ومتقنا ومتغلغلا، مسنودًا بدعم دولي واضح، ومنطلقًا من القاعدة الجوية الأمريكية أنجرليك، والتي كانت مركز القيادة والدعم اللوجستي. غفل الانقلابيون ومن دبر وخطط لهم عن جزئية وحيدة ولكنها مهمة وهي التي كانت السبب الرئيسي في فشل الانقلاب، وهذه الجزئية هي وعي الشعب وتطوره الفكري والأخلاقي وتطلعاته في حياة كريمة بعيدًا عن العبودية وفكر القطيع. حقيقة لا يلام من خطط لهذا الانقلاب في إغفاله هذه الجزئية لأن تاريخ المنطقة الحديث لا يشير إلى مثل هذا الوعي ومثل هذا التطور الفكري، حتى وإن كان لشريحة في المجتمعات والشعوب. هذه الشريحة تحركها مبادئها وتطلعاتها ووعيها وشعورها بالمسؤولية تجاه أجيال المستقبل، وهذه الشريحة هي الفعالة والمؤثرة والتي تصنع الحدث. استطاع السيد أردوغان وحزب العدالة والتنمية أن يقود ثورة حقيقية في مجال الاستثمار في القوة الفعلية للدولة ورأسمالها الحقيقي، ألا وهي الطاقة البشرية والتركيز على تنميتها وتطويرها. ركز أردوغان وحزبه على خلق الشخصية التركية التي تعتز ببلدها وأمجادها وتاريخها الإسلامي. غرس أردوغان القيم والمبادئ في الأجيال التركية من حب الوطن وحب الانتماء إلى الهوية الإسلامية وحب العيش الكريم وعدم التبعية والاعتزاز بالنفس. غرس فيهم الشعور بالمسؤولية تجاه البلاد وتجاه الأجيال القادمة، غرس فيهم قدسية الانتماء وقدسية العيش الكريم وقدسية احترام الدستور والدفاع عنه وعن خيارهم في المسار الديمقراطي. كل هذه القيم هي التي جعلت الشعب التركي يخرج ويتصدى للانقلاب العسكري بكل شجاعة وبسالة، بل رأينا غضبًا شديدًا في عيون الشعب التركي في تعامله مع المنقلبين ولسان حالهم يقول: "كيف تجرءون على هذا الفعل؟ وكيف تهددون الدولة وأنتم أبناؤها؟ وكيف توجهون بنادقكم وتقتلون شعبكم؟ كل هذه التساؤلات كانت تشع من أعيونهم في صدمة من فعل الانقلابيين. تساؤلات مشروعة من شعب يؤمن بخياره في العيش الكريم وبقدسية هذا المسار. بل رأينا ما هو أعجب من هذا، رأينا كيف كان العديد من الجنود الأتراك في حالة حيرة وارتباك، لم يتدربوا على مواجهة شعبهم وقتله. عقيدتهم القتالية كانت في الدفاع عن البلاد من أي عدو خارجي، لا أن يوجهوا بنادقهم إلى صدور شعبهم. بكل أنانية غفل من قاد هذا الانقلاب عن هذه الجزئية، جزئية الوعي والضمير، ووضعوا الجنود الأتراك الذين تحركهم الأوامر ابتداء في حيرة وارتباك، ومن ثم الاستسلام، والذي أراه مشرّفًا لهم بدل المضي في هذا الانقلاب غير الأخلاقي وغير الحضاري. ثنائية غريبة بين قيادات عسكرية تنتمي إلى الحرس القديم وبين جيل جديد من العسكر لديه عقيدة قتالية تختلف وتطلعات مختلفة أسهم في تشكيلها البصمة الأردوغانية في الشخصية التركية. ثنائية العقلية عسكرية التي لا تزال تؤمن بوصايتها على الدولة وأحقيتها في اختطاف خيارات الشعب، وبين عقلية جديدة تؤمن بمدنية الدولة وحرية التعبير والاختيار وقدسية الدولة والشعب. الاستثمار التركي في التركيز على تنمية مواردها البشرية وتطويرها وزرع قيم حب الوطن والانتماء نجح بامتياز، وها هي تجني ثمار هذا الاستثمار وتضع أسس صلبة في تحقيق مشروعها النهضوي، الداخلي والخارجي، في أحياء الدولة العثمانية في ثوب جديد "الدولة العثمانية الجديدة"، والتي يستمد من هويتها الإسلامية وعلاقاتها وروابطها التاريخية مع دول المنطقة، ومن ثم السعي للتكامل الاقتصادي والسياسي لتكوين محيط وحزام صد للأطماع الإيرانية والمشاريع الغربية. تركيا الحديثة الجديدة لم تتخلص بعد من الحرس القديم، سواء في المؤسسة العسكرية وإرثها العلماني الأتاتوركي، أم في باقي مؤسسات الدولة مثل القضاء، وقد استمر هاجس العسكر والإرث العلماني يجثم على طموحات الدولة المدنية من خلال محاولات متكررة للانقلاب عليها، وآخرها في يوليو 2011 وديسمبر 2013. نجح أردوغان في تأسيس جهاز أمن وشرطة ذات عقيدة تنتمي إلى رزمة الحداثة والقيم، رزمة احترام الدولة والشعب والمؤسسات، والدفاع عنها ضد أي مهدد مهما كان، وقد تمثلت هذه العقيدة النقية في الأوامر التي صدرت للأجهزة الأمنية بالدفاع عن الدولة حتى الموت، وقد كان لها وأبلت بلاءً بطوليًا في التصدي لمحاولة الانقلاب. لقد انتصرت إرادة الأحرار في تركيا على قوى الشر والطغيان، وانتصرت القيم والمبادئ السامية على ثقافة الوصاية والعبودية، وانتصرت ثقافة الانتماء للوطن والهوية والوفاء للقيم على الأنانية والتبعية للمشاريع الخارجية. انتصرت إرادة الشعب التركي الحر، ويبقى الأمل في انتصار إرادة الأحرار في دول الثورات العربية.