31 أكتوبر 2025

تسجيل

حين يفقد العالم العربي بوصلته

04 يوليو 2015

الثورات التي اندلعت مطلع العام 2011 أظهرت هشاشة النظم والمجتمعات العربية وكشفت عوراتها المتعددة. وبنظرة فاحصة وسريعة لواقع المجتمعات العربية ما بعد الثورات نجد أن منسوب العنف والاحتراب الداخلي ارتفع إلى مستويات قياسية لم تكن تمرّ بها المجتمعات العربية بهذا الاتساع إذا ما استثنينا الحالة الجزائرية في التسعينيات والذي راح ضحية العنف المتبادل بين السلطة والمجموعات المسلحة زهاء 200 ألف جزائري ليستقر الوضع ويحسم لصالح الجيش وتندثر معه الجماعات المسلحة كما اندثرت آمال الجزائريين بالتحول الديمقراطي المنشود لعقود ثلاثة.هاهي دول عربية اليوم تستنسخ التجربة الجزائرية بأدق تفاصيلها دون أن تعتبر بها أو تتعظ، بل يجمح إليها البعض كملاذ أخير في إلحاق الهزيمة بخصومه المفترضين من أبناء وطنه. وكلما زاد إصرار الحالمين بالتغيير، تشددت النظم المستبدة في الدفاع عن نفسها وسيرت الجيوش وحركت آلتها الفتاكة من قضاء وإعلام محلي وفضائي في معركتها المباشرة مع الشعب المنتفض أو مع بعضه ممن رفض المسار القائم وأبى العودة إلى القمقم الذي طوى الشعوب العربية في غياباته دهورا.الواضح وسط هذا الصراع أن الدولة في عالمنا العربي فشلت في أن تكون دولة وطنية جامعة لكل مكوناتها العرقية والدينية، كما أن غياب الحريات وتضاؤل فرص العمل وتباطؤ النمو الاقتصادي والفشل في مكافحة البطالة والعجز أمام الانفجارات السكانية والتحولات الديموغرافية، جميعها عوامل ساعدت بنسب مختلفة في الوصول إلى حالة عدم الاستقرار التي تعيشها المجتمعات العربية التي تطالب بالتغيير.ترفض النظم العربية مناقشة الحقوق السياسية في بلدانها. ومفاهيمها حول الدولة والشعب والعقد الاجتماعي الناظم للحياة الخاصة والعامة تكاد تعود إلى مفاهيم ما قبل الدولة. وتعتقد أنه بامتلاكها وسائل القوة واحتكارها حق العنف ووقوف وسائل الإعلام إلى جانبها أمور كفيلة بمواجهة هذه المتغيرات وبترويض الشعب ومنعه من المطالبة بحقوقه الفطرية والمكفولة بالقوانين الإنسانية الدولية.قد تنجح النظم في إطالة أمد وجودها بتكاليف عالية جدا، وقد تنجح في إدارة معاركها مع خصومها في الداخل والخارج وشيطنتهم وسلبهم حقوقهم الأصلية لكنها لن تنجح في إبقاء الوضع على ما هو عليه لسنوات طويلة، لأن العالم تغير وتغيرت معه قوانين التواصل والاتصال، وما أحدثته تكنولوجيا التواصل وإدارة المعلومات من وفرة إلكترونية تمثلت بمواقع التواصل الاجتماعي التي لعبت الدور الأبرز في قيام الثورات العربية كفيلة بأن تنسف كل مخططات النظم في الاستمرارية والبقاء، إذ لم تعد الأساليب القديمة وغير المرنة فعالة في عصر شديد التغيير والتبدل والتحول.وكلما تأخرنا في اعتماد الحلول الصحيحة المتمثلة بالتحول الديمقراطي كلما كانت الخسائر كبيرة ومكلفة وكلما أضحت الحلول معقدة. والأمر لم يعد يقتصر على الاستنزاف المستمر لموارد الأمة ومقدراتها المادية بل وصلت الخطورة إلى احتمالية تفتت المجتمع العربي بكل مكوناته مع هيمنة لغة الثأر على خطابه وبلوغ الرغبة في الانتقام مدايات عالية. وفي الحقيقة وصلنا إلى حالة الاحتراب الأهلي في أكثر من بلد عربي، وهي مرحلة على الأقل تؤكد على فشل الدولة وليس فقط على فشل النظام السياسي الموجود.وكما هو معلوم فإن حالة الاحتراب الأهلي عندما تقع يتطلب الخروج منها سنوات من العمل الجاد على كافة الصعد في سبيل إعادة اللحمة إلى المجتمع وتنقيته من عوامل التفتيت. والمثير للدهشة أن بعض النظم تسرع من وتيرة الانزلاق نحو الاحتراب الأهلي وتنفخ فيه وتزينه في عيون داعميها دون أن يرف لها جفن وهذه الحالة تعكس انعدام الحس الوطني لدى من يفترض بهم حراسة الوطن والقيام على تنمية قيم المواطنة في قلوب أبناء الوطن.لاشك أن الشعوب العربية تمر بأسوأ مراحلها، وأن قوافل الهجرات غير الشرعية التي يعبر بعضها البحار نحو الشمال ويغرق أغلبها في أعالي البحار قبل الوصول مثالا صارخا على حالة اليأس والإحباط والأفق المسدود أمام مستقبل أفضل.لقد تحولت بلادنا إلى مقابر متنقلة لأحلام أبنائها وطموحاتهم بعد أن تضاءلت فرصهم بالحرية أو العيش الكريم. لكنها مرحلة فيها الكثير من الفرص لنهضة حقيقية ممكنة لصالح المنطقة وأهلها إن أحسنت الدول والشعوب استغلالها بشكل جيد. إذ لم تصعد أمة من كبوتها ولم ينتقل مجتمع من طور إلى آخر إلا وقد مرّ بما يشبه الخضات العنيفة التي تهدد وجوده وتكاد تمزق وشائجه، وقد عاشت أوروبا هذه المراحل داخل الدولة الواحدة أو في علاقتها فيما بينها. وهي حالة شبيهة بالتي عاشتها الولايات المتحدة أثناء وحدتها. فهل نحن مستعدون لتجرع نفس الكأس للعبور نحو مستقبل أفضل للجميع؟!.