14 سبتمبر 2025
تسجيلمصر وتونس خرجتا من سطوة الاستبدادالى صعوبة في رحابة الحريات الصعوبات التي تمر بها المرحلة الانتقالية في مصر وتونس تلفت خصوصا إلى أن الفئات التي توحدت في صنع الثورتين ما لبثت أن تفرقت في سعيها إلى تحقيق الأهداف، فبعد الزمن الرديء تحت سطوة الاستبداد، بدأ الزمن الصعب في رحاب الحريات التي انبثقت من الشارع. لم يكن الشعب هنا أو هناك، يجهل التعددية في صفوفه، ولا اعتبرها مشكلة يجب أو يمكن أن تحول دون التغيير، لكن يلزمه بلا شك الوقت والصبر ليعيد بلورة التوافقات التي ستشكل وئامه وتعايش مختلف مكوناته، الفارق أن النظام السابق عبث بتلك التعددية واستغل تناقضاتها ليوحي بأن الشدة التي استخدمها هي التي ذوبت التباينات وأدت إلى إشاعة الاستقرار، وها هي فلوله تشير إلى التخبط الحاصل في تحديد خيارات المستقبل لتقترح أن الشعب كان في نعمة لم يقدرها فاختار أن يبددها ليبحث عما يجهله. حاول حكام ليبيا واليمن وسوريا ويحاولون الاستناد إلى تجربتي مصر وتونس لإقناع مواطنيهم بأن التغيير غير مريح وينطوي على مخاطر يجب أن تثنيهم عن المضي في الاحتجاج والمطالبة بإسقاط النظام، لكن الشعب بات يعرف مسبقا أن هناك مصاعب وهو يأمل بتخطيها، ثم انه لا يرى أولوية أخرى غير ضرورة التخلص من تجارب حكم صارت متكلسة ولم يعد قادرا على قبولها، خصوصا أنها راحت تبني لنفسها أسس ديمومة لا متناهية، عبر التوريث ومصادرة المؤسسات وقولبتها فضلا عن تركيز المال العام في قنوات تخدم أهداف النظام ولا تبقي سوى القليل للتنمية، وتنسى فلول الأنظمة السابقة، أو جماعات "الثورة المضادة" ان كل مشاكل المرحلة الانتقالية تعود عمليا إلى أن العقود السابقة أهدرت في قتل كل احتمالات تداول السلطة وتجديد الوجوه والدماء، وكذلك في تكريس حكم الفرد وإخضاع الدولة والشعب لإرادته. يكفي أن تكون العلاقة السابقة بين الدولة والشعب قامت على انعدام الثقة، وانعدام الضوابط الدستورية والقانونية، وانعدام النقد والرقابة والإصلاح وتصويب المسارات لكي نتفهم بعض الصعوبات الراهنة في توضيح خريطة الطريق إلى المستقبل. فالشعوب تحدس بأنها لا تستطيع، بل ليس متاحا ان تثور كل يوم أو كل شهر أو كل سنة، لذلك فهي تريد ضمان روادع فاعلة لعدم تكرار التجارب التي أضاعت عقودا ثمينة من عمر أجيالها المتعاقبة من هنا الإصرار أولا على مبدأ "الدولة المدنية" لأن النماذج الخمسة التي جرى ويجري إسقاطها ارتكزت على انقلابات وعلى صعود قادة عسكريين أو أمنيين إلى سدة الحكم ومكوثهم فيها من دون أي رغبة في المغادرة، فأي رئيس مدني منتخب لن يتمكن من تجنيد الجيش والأجهزة والتلاعب بل من أجل تثبيته حاكما بولاية مفتوحة ومديدة تتيح له إعادة صوغ القوانين لتغطية مشاريعه، كما أن الرئيس المدني مهما فعل لن يكتسب بعداً أمنياً وترهيباً يساعده في فرض الخوف والصمت والخضوع. هذا المبدأ هو الذي جعل مهمة اختيار الصيغة المقبلة للنظام أشبه بعمل كيميائي وصيدلاني بالغ الدقة، ففي الوقت الذي يجب ضمان الهيبة والاحترام والفاعلية لرئيس الدولة، ينبغي أيضا إقفال كل المنافذ التي تمكنه من التسلط، لابد أن تحتل البرلمانات موقعا مفصليا في تركيب الأنظمة الجديدة، ولابد أن تكون للحكومات صلاحيات أوسع، وستكون الانتخابات الممر الذي يفترض أن يكون آمنا إلى الواقع السياسي الجديد والمرتجى. ومعلوم أن هناك مواعيد أولية حددت للانتخابات في مصر وتونس، ثم أرجئت في الثانية ويحتمل أن تؤجل في الأولى، وسط استياء من بعض القوى وارتياح من قوى أخرى، إذ أن بروز الأحزاب الإسلامية كقوة جاهزة ومتماسكة ومتعطشة لقطف ثمار الثورة دق جرس الإنذار لسائر الأحزاب، وأيضاً لكل فئات المجتمع التي لا تعتبر أن خيارات وبرامج الإسلاميين مطابقة للرؤى التي أظهرتها الثورة، وبالتالي فإن استبدال الإسلاميين الإيديولوجيين بالعسكر ليس خيارا سليما، بل لعله لا يحقق تغييرا حقيقيا لأنه ينقل البلاد من تزمت إلى تزمت. نأتي إلى الاستحقاق الأهم والأخطر، وهو حتمية القطع مع نهج الفساد الذي طالما عمل في "مأسسة" الاستبداد وتقوية جذوره وحتى في صنع نوع من "الشعبية" له، هذا الاستحقاق مطروح ليس فقط في سياق الأنظمة المأزومة التي فقدت شرعيتها، وإنما أيضا في سياق الإصلاحات الأساسية المطلوبة من الأنظمة التي نجت حتى من عواصف الاحتجاج الشعبي، والواقع أن الفساد بات مكشوفا وأصبحت هناك معايير دولية لتحديد أساليبه، وأكثر ما أذهل المصريين أن الحقائق التي تكشفت عن بعض الصفقات وعن التصرف بالأراضي والأملاك الحكومية تجاوزت تصوراتهم، كما أن اليمنيين مثلا عرفوا أن مبالغ كبيرة سحبت لتنظيم التظاهرات المؤيدة للنظام، وفي ليبيا لا أحد يعرف بالضبط أين يمكن فصل أموال الدولة وتمييزها عن أموال القذافي. لا شك أن بناء أي نظام جديد هو مسؤولية جسيمة قبل كل شيء، وتحاول الحكومات الانتقالية أن ترسم قراراتها بنوع من "الشراكة"، ولو المعنوية مع قوى الثورة فنراها تنجح أحيانا وتخفق أحيانا أخرى وتضطر إلى تغيير توجهاتها، وحتى في الحال التي مثلها المغرب، حيث بادر الملك إلى إصلاح دستوري يبدو الواقع الجديد مفعما بالتحديات للدولة كما للمجتمع السياسي، فالنصوص يمكن أن تضيء الطريق لكنها لا تكفي وحدها لإنجاز التغيير، الذي يتحقق فقط بالممارسة. أما الدول التي لا تزال تجهد لكتابة دساتيرها الجديدة فضلا عن تلك التي تشرع في كتابتها بعد، فيغمرها شعور مرير بأنها في صدد عمل كان يفترض أن ينجز قبل عقود، فالدساتير التي داسها الحكام الطغاة كانت في معظمها جديدة قبل أن يعمدوا إلى إفراغها من أي مضمون.