11 سبتمبر 2025
تسجيلفي مقال سابق، تكلمنا عن أهمية القراءة في مسار الشعوب والدول والأمم. فالشخص الذي يقرأ يختلف عن الذي لا يقرأ والمجتمع الذي تنتشر فيه ثقافة القراءة والمطالعة والمكتبات ومختلف روافد العلم والمعرفة يختلف عن مجتمع تنتشر فيه "الأمية المثقفة" أي أن هناك شعبا يعرف القراءة وله سنوات من التعليم لكنه من دون ثقافة وبدون ثقافة عامة لأنه بكل بساطة لا يقرأ. في هذا المقال، نناقش الحالة المزرية للغة العربية وعدم الاهتمام بها من قبل أبنائها والنظر إليها كما يدعي الكثيرون بأنها غير مؤهلة، لأن تكون لغة العلم والمعرفة والنظريات والتكنولوجية. فهجرة اللغة وعدم استعمالها والفخر بها يعني بكل بساطة التنكر للأصل وللتاريخ وللحضارة وللدين وللوطن. فالذي يهجر لغته يعني أنه لا هوية له ولا مواطنة له ولا ولاء. وهذا يعني أن البلد في خطر. قبل سنوات أطلق صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي في إطار "رؤية الإمارات 2021" حزمة مبادرات لتعزيز مكانة اللغة العربية. تشمل ميثاقا للغة العربية لتعزيز استخدامها في الحياة العامة، ومجلس استشاري برئاسة وزير الثقافة، ولجنة خبراء عربية دولية لإحياء اللغة العربية كلغة للعلم والمعرفة، وإبراز المبدعين من الطلبة فيها، وإنشاء كلية للترجمة ومعهد لتعليم العربية لغير الناطقين بها، ومبادرة إلكترونية لتعزيز المحتوى العربي على شبكة الإنترنت. مبادرة أقل ما يمكن قوله عنها إنها جاءت في الوقت المناسب لرد الاعتبار لمكون رئيسي لهوية وذاكرة وتاريخ العرب والمسلمين. فاللغة العربية اليوم تعاني من مشكلات عدة من أهمها التهميش والتقليل من شأنها وقدرتها على إنتاج العلم والمعرفة. وعلى سبيل المثال ولا الحصر دعنا ننظر إلى الوضع الذي آلت إليه لغة الضاد في وسائل الإعلام. ما هي مكانة اللغة العربية في وسائل الإعلام، وفي حياة المواطن العربي وفي وجدانه وطريقة تفكيره وعيشه. الواقع يشير إلى أزمة معقدة تنتشر بسرعة فائقة ومذهلة والأمر خطير لعدة اعتبارات من أهمها أن العولمة وعصر الإنترنت والمعلوماتية لا يرحم ولا يشفق ومن لا يحصن نفسه بالعلم والمعرفة والإنتاج الفكري والأدبي، فإنه سيذوب لا محالة في الآخر وسيصبح كاللقيط الذي لا يعرف له لا أصلا ولا فصلا ولا تاريخا ولا جذورا. إذا نظرنا إلى إشكالية اللغة يجب أن ننظر إليها ليس كمجرد وسيلة بريئة أو كناقل للأفكار والمعاني والتجارب وإنما كثقافة وكحضارة وكذاكرة اجتماعية. اللغة هي هوية الشعب والأمة واللغة هي الرافد الرئيسي لتطوره وتقدمه وعلومه وابتكاراته واختراعاته. واللغة هي القاسم المشترك الذي يجمع الأمة في التعبير عن أفراحها وأقراحها واللغة هي الناقل الذي يلّم الشعب ويوّحده. فإذا أردنا أن نتكلم عن إشكالية اللغة فإنه يجب علينا أن لا نفرغها من محتواها ومن أيديولوجيتها وأبعادها المختلفة سواء كانت دينية أم سياسية أم حضارية أم أمنية أم قومية.. والقائمة قد تطول.. فاللغة إذن تحدد لنا كيف نفكر وكيف نلبس ونأكل ونمرح ونمزح فهي وعاء كبير قد يلّم معاني وأفكارا ومعتقدات وسلوكيات تعكس الفرد في بعده الإنساني والحضاري والثقافي والاتصالي والديني والاجتماعي. الوضع الذي وصلت إليه اللغة العربية في وسائل الإعلام المختلفة شيء مخز ومؤسف حيث أصبحت معظم هذه الوسائل خاصة السمعية البصرية منها تتفنن في استعمال اللهجات العامية والدارجة وهذا بافتخار واعتزاز والمبرر هو أن العامية بسيطة ومفهومة لدى الجميع. وإذا رجعنا إلى موضوع العامية بدلا من اللغة العربية الفصحى نجد أن بعض المستشرقين والحاقدين على العرب والمسلمين خاصة هؤلاء الذين كانوا يهدفون إلى طمس الهوية العربية ودفن الإسلام والحضارة الإسلامية كانوا يصّرون على استعمال العامية وهذا ما حدث على يد المنظرين للاستعمار الأوروبي في القرن التاسع عشر. وبذلك نجد الكثير من المستعمرين الفرنسيين في الجزائر على سبيل المثال قد كانوا يصّرون ويشجعون استعمال الدارجة والابتعاد بقدر الإمكان على اللغة الفصحى مما جعلهم ينشرون كتبا بالدارجة ويشجعون كل من يستعمل العامية في التعليم والنشر والاتصال الرسمي وهم في نهاية الأمر من نشروا ثقافة تزييف القرآن وتحريفه وتجريده من معانيه الصحيحة من خلال شبكة من المشعوذين وأشباه الأئمة. موضوع استعمال العامية يطرح عدة تساؤلات: لماذا العامية؟ وهل اللغة العربية الفصحى عاجزة على إيصال المعاني والأفكار للجمهور؟ وهل اللغة الفصحى معقدة وصعبة إلى درجة أن الجمهور العريض لا يستطيع فهمها؟ وهل العامية مفهومة للجميع؟ أم أن اللغة العربية الفصحى عاجزة على مواكبة العلم والمعرفة وآخر الاكتشافات التكنولوجية؟ وإذا نظرنا إلى اللغة العربية المستعملة في المحلات وفي الشوارع من خلال اللافتات واللوحات الإعلانية نلاحظ تلوثا لغويا لا مثيل له حيث استعمال الدارجة وكتابة الإعلانات بالحروف اللاتينية واستعمال كلمات إنجليزية أو فرنسية مكتوبة بحروف عربية، والشيء نفسه نجده في الكثير من إعلانات الصحف التي لا تراعي احترام اللغة السليمة على الإطلاق. هذا الوضع مع الأسف الشديد يساهم في نشر ثقافة العامية والدارجة وثقافة الاعتداء على اللغة العربية الفصحى بحجة التبسيط والتطوير والتأقلم مع معطيات العصر.