18 سبتمبر 2025

تسجيل

حين اجتمعت الأضداد في الفاروق عمر

04 مايو 2017

حين تقترب أكثر فأكثر من شخصية وقامة عظيمة مثل الفاروق عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، ستجد أنه جمع الأضداد في شخصيته. تجده قمة في الشدة في موقف ما، لا يلبث أن تراه في أعمق معاني الرقة والرحمة في موقف بعده.. وقد تجده بركاناً فائراً حين يرى حرمات الله تُنتهك، ثم يذرف دموعاً غزيرة لمجرد إحساس بالتقصير تجاه أحد رعيته، حتى وإن لم يقصّر فعلياً في نظر من حوله، باعتبار أن معاييره ونظرته للأمور كشخص مسؤول مؤتمن، كانت تختلف عن عامة المسلمين.. وفي بعض ما جاءت به كتب الأخبار عن مواقفه مع رعيته، دلالة على ما نقول. أسلم جبلة بن الأيهم، آخر ملوك الغساسنة وكتب إلى الخليفة عمر يستأذنه في القدوم عليه، فرحب به وأدنى مجلسه. ثم خرج في موسم الحج مع عمر، فبينما هو يطوف بالبيت إذ وطأ إزاره رجل فقير من بني فزارة، فالتفت إليه جبلة غاضباً فلطمه وهشم أنفه. فغضب الفزاري واشتكاه إلى عمر فبعث إليه فقال: ما دعاك يا جبلة إلى أن لطمت أخاك في الطواف فهشمت أنفه؟ قال جبلة: لستُ ممن ينكر، أو يكتم شيئاً. أنا أدَّبتُ الفتى. أدركتُ حقي بيدي! قال عمر: أيُّ حقٍّ يا ابن أيهم؟ يريد أن يقول عمر لجبلة بأن مثل هذه المفاهيم لا محل لها عنده، بل هي عند غيره، حيث يُقهر المستضعف العافي ويُظلم.. أما عندي فلا. هي جاهلية وأزحناها من حياتنا يا جبلة. ثم قال عمر: ارضِ الفتى. لابد من إرضائه مازال ظفرك عالقاً بدمائه، أو يهشمن الآن أنفك، وتنال ما فعلته كفك. قال جبلة: كيف ذاك يا أمير المؤمنين؟ هو سوقة وأنا صاحب تاج. إنني عندك أقوى وأعز. أنا مرتد إذا أكرهتني. قال عمر: عالمٌ نبنيه، كل صدع فيه بشبا السيف عندك أقوى وأعـز. لم يستوعب جبلة ما كان يعنيه عمر.. لم يفهم أن الإسلام ساوى بين الناس، وأنه لا فرق بينهم إلا بالتقوى، ولم يفهم أن الارتداد عن الدين يستوجب حداً شرعياً.. فطلب جبلة من عمر أن يمهله إلى الغد، حتى إذا انتصف الليل، هرب نحو القسطنطينية حيث هرقل الروم، مرتداً عن دينه. حتى إذا أصبح الناس وطلب الفاروق جبلة، علم أنه فر، لكنه لم يبال ويهتم به، وإن كان ملكاً من ملوك العرب، وإن كان بارتداده سيرتد ألوف معه. عمر لا يقيم لمثل تلك الاعتبارات أي وزن، فإن ارتداد رجل عن الإسلام أهونُ عنده بكثير، من التهاون في تطبيق مبدأ عظيم من مبادئه وهو المساواة بين الناس، وإقامة العدل بينهم، وخسارة فرد لا يمكن أن تُقاس بخسارة مبدأ. لك أن تقرأ، لمزيد من التعرف على شخصيته الفذة، قصته مع سيف الله المسلول خالد بن الوليد، وقرار عزله من قيادة جيوش الفتح، وتتأمل سبب العزل ولماذا لم يعترض أو يثر خالد ضد القرار. أو تقرأ قصة الفاروق مع عمرو بن العاص، حين استدعاه وابنه من مصر وكان أميرها، وكيف اقتص من ابنه لقبطي ضعيف اعتدى عليه ابن عمرو دون وجه حق، ولك أن تتأمل قبول عمرو حكم الفاروق في ابنه وكيف عاد عمرو إلى مصر متأثراً محرجاً من الموقف، لكن لم يتمرد مثلاً وينتهز فرصة الحادثة تلك، فيستقل عن دولة الخلافة، على غرار ما كان سائداً قبل الإسلام وبعده أيضاً، وهو من هو في الدهاء والحنكة السياسية.. لكنه لم يفعل، وأدرك أن الصواب فيما قام به الفاروق. بمقاييس اليوم، سيعتبر البعض أن ما قام به الفاروق مع جبلة، عمل سياسي قصير النظر، وكان بالإمكان لملمة الأمر وتطييب خاطر فرد ضعيف لا وزن له في الأمة، مقابل مصالح كثيرة متوقعة من وجود شخص عظيم وملك من ملوك العرب ضمن الأمة المسلمة. لكن ثبات عمر على موقفه وشدته في الاقتصاص للمظلوم من ظالمه، رسخ معنى أن يعيش الناس أحراراً آمنين مطمئنين، لا يظلمون ولا يُظلمون. ثباته على المبادئ ورغبته الأولى والدائمة على أن يؤدي أمانة الخلافة بالشكل الذي يرضي ربه، جعلته لا يهادن أو يلين في وجه الفساد والمفسدين، ويقف بصلابة مشهودة في وجه الظلم والظالمين، ولا يخاف في الله لومة لائم، بل إن كل من كان حوله من كبار الصحابة العظام الكرام، أخذوا عمر مقياساً ومعياراً، به يقيسون أنفسهم في تعاملاتهم مع الآخرين، وأداء أماناتهم وواجباتهم.. وبمواقفه تلك وغيرها كثير، عاش عمر في النفوس المسلمة إلى يوم الناس هذا، وإلى ما شاء الله أن يكون، قامة عظيمة شامخة راسخة، يترحم عليه ملايين المسلمين، ويعجب به كثيرون من خبراء وقادة الإدارة في العالم، ويعتبرونه مدرسة لوحده في عالم الإدارة. وجد الصحابة الكرام في مواقف لا تحصى، بأن الفاروق عمر ما انتصر يوماً لنفسه أو اتخذ قراراً وفق مزاج أو هوى.. عدالته، وإن كانت قاسية على بعض النفوس حيناً، إلا أنها جلبت احترام الجميع له، مسلمين وغير مسلمين.. والمقولة التاريخية (عدلت فأمنت فنمت يا عمر) جاءت على لسان غير مسلم.. تلك العدالة وغيرها من مزايا وصفات نادرة في الفاروق، جعلته من أعظم شخصيات الإسلام بعد الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبي بكر.. فرحم الله الفاروق عمر، ورضي عنه وأرضاه.