16 سبتمبر 2025

تسجيل

هكذا ينصت لك الغـير ويستمتع

04 مارس 2021

لا أدري كم منكم من كان وما زال يستمتع بالإنصات لدروس الشيخ الشعراوي - رحمه الله - أو خواطر الدكتور محمد راتب النابلسي أو خطب الجمعة للشيخ عبد الحميد كشك - رحمه الله - أو الأحاديث العلمية في برنامج العلم والإيمان للدكتور مصطفى محمود - رحمة الله عليه - وأمثالهم كثيرون ممن حباهم الله مهارة فائقة في إيصال ما بأنفسهم وأذهانهم إلى الآخرين، وبصورة شائقة جاذبة؟ لا شك أن كل أحد منكم ينجذب لهذا العالم أو ذاك الخطيب أو ذلكم المتكلم، إما لبراعة في الإلقاء أو سلاسة في إيصال المعلومة أو عمق في العلم الشرعي أو الدنيوي، أو سهولة في تعابير وأساليب الخطاب أو غيرها من أسباب. لعل أغلبكم سمع أو قرأ الحديث الذي تحدث عن ذاك الرجل، قاتل التسع والتسعين نفساً، الذي أراد أن يتوب عن جرائمه السابقة، حيث ذهب إلى واعظ من الوعاظ في قريته وسأله إن كانت له توبة، فكانت إجابة الواعظ غير سارة للقاتل، وبالطبع كانت غير حميدة للواعظ الذي صار بعد كلماته غير الجاذبة أو الملهمة للقاتل، الضحية رقم مائة! ذهب القاتل بعد ذلك إلى فقيه إحدى القرى وأعاد عليه التساؤل السابق، فكانت إجابته هي التي يبحث عنها القاتل، وبالطبع صدرت تلك الإجابة عن علم وفقه أولاً، ومن ثم براعة في الاحتواء والتأثير، فكانت كلماته باعثة على الاطمئنان والهدوء، حتى إذا ما تحقق ذلك في نفس القاتل، طلب الفقيه منه بعد ذلك الارتحال عن قريته، من منطلق أن تغيير البيئة المحيطة أحياناً ربما يكون هو حل لمشكلة مستعصية، فما كان من قاتل المائة إلا ورحل عن قريته يبتغي بيئة جديدة وفي نيته توبة صادقة، فمات في منتصف الطريق، وجاءت ملائكة العذاب وفي الوقت نفسه ملائكة الرحمة، فاختصم الفريقان أيهما يتولى أمر الرجل، أوحى الله إلى الأرض أن تُقرّب القرية الجديدة من موقع موت القاتل، فصار بالتالي أقرب إلى الخير، ما يعني أنه في نطاق ملائكة الرحمة، التي تولت أمره ونجا بفضل الله. الشاهد من هذه المقدمة الطويلة، مدى تأثير العلم والفقه بالشيء على التعامل مع الآخرين، بالإضافة إلى كيفية نقل ذلك العلم والفهم إلى الغير، إذ ليس كل من تمظهر بمظاهر الدين يُسمع له ويُنصت إليه، لأن هذا الإنصات يستحقه وبالضرورة، كل من له علم من الكتاب، صادق مع الله قبل الناس.. وهذا هو المدخل لموضوع اليوم. كيف ينصت إليك الآخرون، بل ويحدث فهم وإدراك لما يصدر عنك من أقوال وعبارات؟. القول اللين في علاقاتنا لم يظهر مجرم في البشرية مثل فرعون موسى، ظالم عنيد، ومتكبر جبار، لا يسمع ولا ينصت إلا لنفسه أو من تهواه نفسه، ورغم ذلك حين أمر الله موسى وهارون بالذهاب إليه، أمرهما أن يستخدما أسلوب اللين معه ﴿فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى﴾ إشارة إلى ما للكلم الطيب من تأثير عميق بليغ على النفس، مهما تكن النفس متجبرة متكبرة أو صلبة قاسية مثل نفس فرعون. إنَّ فشل كثيرين في الوصول إلى الآخرين، وإيصال ما بأنفسهم إلى الناس من رسائل وقيم ومعان، إنما سببه عدم الإلمام بمهارة استخدام ما بأنفسهم من كلمات ومعان بالصورة المثلى والمؤثرة، فتراهم يُخرجون الكلمات من صدورهم بلا روح أو حرارة العاطفة الإنسانية، فتخرج باردة باهتة، لا لون لها أو طعم، وبالتالي لن يكون غريباً في الأمر إن لم تجد تلك الكلمات آذاناً صاغية أو قلوباً واعية. الله عز وجل يدعو عباده أن يتجملوا في القول، ويختاروا الأطيب من العبارات والكلمات ﴿وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن﴾، هذا هو ما نسميه فن أو مهارة إخراج ما بالنفس وإلقائها على القلوب قبل المسامع، التي وإن كانت تلك المهارة هبة من الله، إلا أنها تبقى مهارة، شأنها شأن أي مهارة أو موهبة أخرى يمكن اكتسابها بالعلم والتدريب الجاد المستمر، حتى إذا ما وجدت نفسك تريد أن تجادل أحداً، فليكن الجدال بالحسنى، وإن وعظت أو مدحت، تقول الأفضل والأجمل والأبلغ من الأقوال والعبارات، ولكن بالحق، لا تجامل أو تنافـق أو تداهن أو ما شابه من أفعال الكلام غير المحبذ. الآية إذن تدعو الإنسان أن يظهر مهاراته في إبراز القول اللين بل الأحسن، ويتفنن ويبدع في تجميل الأقوال لكي تنفذ مباشرة إلى القلوب قبل الآذان، ولنا في رسولنا الكريم - صلى الله عليه والسلام - القدوة الطيبة والحسنة في هذا المجال. الإلقاء موهبة وفن الإلقاء، سواء على شكل خطبة أو محاضرة أو مداخلة أو نقاش عام، إنما هو عمل يحتاج إلى كثير صبر ومثابرة قبل الخروج على الملأ، إن صاحب أي موهبة مثلاً، يحتاج إلى سنوات من التدريب المستمر، وتعلم فنون ومهارات وأساليب متعلقة بموهبته، حتى يصل إلى مستوى من التميز والإبداع، يشهد عليه بذلك المتابعون أو المستفيدون منه. الأمر نفسه مع المتحدث الماهر المبدع، الذي ما أن تسمع عن مشاركة له في محاضرة أو ندوة أو مهرجان جماهيري أو في البدعة الإعلامية الجديدة المسمى "clubhouse" وما شابه، إلا وسارعت إلى الحضور والمشاركة من أجله هو لا غيره. وهناك كثيرون، تمتلئ القاعات أو المساجد أو المسارح من أجلهم، والذين لم يأتوا إلا لشخوص أولئك المتحدثين البارعين، حتى وإن لم تكن الموضوعات المطروحة بذات الأهمية للجمهور، لكن جمال وحلاوة أسلوب المتحدثين، صار هو الجاذب الأول قبل الموضوع، والسبب أنهم أدركوا كيفية توصيل ما بأنفسهم إلى نفوس المستمعين، ولمثل هؤلاء، نتطلع أن نراهم في جوامعنا وجامعاتنا ومسارحنا وغيرها من مواقع الحديث أو الإلقاء. حين تتكون لديك الرغبة في أن تلقي كلمات إلى الجمهور، فهذا يعني أنك تحمل هماً معيناً بغض النظر عن طبيعة هذا الهم، إن كان جميلاً أم كئيباً أم غيرهما، فإنه سيظل في نهاية الأمر هماً لا يجعلك تشعر بالراحة الداخلية حتى تخرجه من صدرك، وهذا ما يعطي حرارة وقوة إلى كلماتك التي تريد إخراجها إلى الجمهور، ولعل هذا يمكن اعتباره شرطاً أولاً لإلقاء جيد، أما الشرط الثاني في جعل إلقائك جيداً ومقبولاً، هو أن تعرف الطريقة التي بها تنقل ما بنفسك إلى المستمعين، فالعبرة ليست بما تقول وإنما بالطريقة التي تقولها. ما الأسلوب المؤثر إذن؟ هل شاهد أحدكم يوماً محاضراً ألقى نكتة لم يضحك لها كثيرون؟ وهل شاهد أن ألقى النكتة نفسها محاضر آخر، انقلب الجمهور على قفاه من الضحك؟ لماذا لم يضحك الجمهور عند الأول وضحك مع الثاني؟، لا شك أنه الأسلوب في توصيل الرسالة إلى الآخرين. الأسلوب المؤثر الذي أتحدث عنه، هو أن تتحدث إلى الجمهور بشكل مباشر دون تصنّع وتكلّف في الإلقاء، هذا الجمهور لا يريد منك التقعر والتشدد في الألفاظ، بل هو يريد منك الحديث الأخوي المباشر، يريد حديث القلب إلى القلب، لا تحاول أن تتميز عليهم بكلامك، مهما كان هذا الكلام قوياً ومؤثراً، أرسل كلماتك مع حرارة نفسك إلى نفس وقلب الجمهور، وسيجدها بالفعل حارة مؤثرة، يتفاعل معها بنفس القوة. أشعرهم بأنك تتحدث إليهم هم فقط، وأنك ما جئت إلا إليهم، وأنك لا تتميز عليهم بشيء، أشعرهم بالرباط الأخوي الإنساني بينك وبينهم، مهما يكن وضعك الأكاديمي أو الأدبي أو الاجتماعي، تحدث بشكل طبيعي كما أنت في حياتك العادية اليومية، لا تحاول أبداً أن تشعرهم للحظة واحدة أنك أتيت إليهم من أجل إبراز عضلاتك في الإلقاء بالصوت ولغة الجسم، إنك إن فعلتها، سيكون أمر انكشافك أمام الجمهور سهلاً لا يحتاج لكثير جهد. لهذا وأنت تتحدث إلى الجمهور، وكخلاصة للحديث، حاول أن تجعله يخرج وقد استوعب ما تحدثت عنه، هذا هو الهدف الأسمى الذي عليك أن تضعه نصب عينيك، وها هنا قد تتساءل: هل يعني من هذا ألا أهتم بفنون الإلقاء؟ بالطبع ليس هذا الذي أعنيه، لا أقول إن مهارات وفنون الإلقاء غير مطلوبة، بل على العكس هي مهارات ستساعدك على توصيل ما بنفسك من رسائل ومعان، لكن القصد هو عدم التركيز على ذلك وإظهارها بتكلّف ملحوظ، ولكن بدلاً من ذلك، تتحدث بصورة طبيعية كما أنت، وحينها ستجد الجمهور ينتبه للمعاني والرسائل المرسلة منك، بل ويستمتع وهو يستمع إليك وينصت، وربما بدرجة كبيرة، سيخرج وقد وعى وفهم وهضم ما سمع.. أليس هذا هو مرادك من الحديث؟. جرب وانظر ماذا ترى. [email protected]