16 أكتوبر 2025

تسجيل

السعي لعالمية الاقتصاد الوطني (2)

04 مارس 2019

إذا كنا ننادي بضرورة الاستثمار الخارجي الذي يعد الأكثر مناسبة لاقتصاد دولة قطر التي لا تتسع أسواقها لمشاريعها الضخمة وإنتاجها الوفير، فإننا ننادي بضرورة الاعتماد على الذات في التخطيط والمتابعة والتنفيذ وهيكلة الشركات والمؤسسات في الدولة، وعدم الاعتماد على بيوت الخبرة العالمية، أو الاعتماد عليها في أضيق نطاق حسب الضرورة؛ لأن التجربة أثبتت أن استيراد الأفكار الخارجية هي أشبه بنماذج لا يمكن تطبيقها على أرض الواقع؛ وإن طبقت فإنها تصطدم بعقبات كثيرة تجعل صانع القرار يبحث عن تصورات أخرى لتكون أكثر موائمة له، وفي هذا هدر للوقت وتضييع للمال، وتعطيل لمسار التنمية، وأنا شخصيا لي تجربة في ذلك حيث إننا اعتمدنا في أحد بنوكنا على بيت خبرة عالمي، وظل التصور مجمدا غير قابل للتنفيذ، إلى أن قررنا بأن نعتمد على أنفسنا في ذلك فقمنا بإعادة الهيكلة والتنظيم لمؤسسة رئيسية يعتمد عليها الاقتصاد كبنك قطر الوطني وقد تمت العملية في ستة أشهر، فكانت هذه المؤسسة الوطنية العريقة صاحبة السبق في الاعتماد على الخبرات المحلية في إعادة الهيكلة والتنظيم. إن الرؤى والتصورات تنبع من معايشة المشكلات ومعرفة أماكن القوة والضعف، والدراية بثقافة المجتمع وعاداته وتقاليده، وطبيعة السوق وما يحتاجه، وهذه كلها تحتاج إلى خبرات وطنية تضع خلاصة تجربتها وخبرتها في هذه التصورات التي تكون قابلة للتطبيق ويصلح تطويرها عبر الزمن وما يستجد فيه من تغيرات. إن الحصار على قطر كانت أكبر مزاياه متمثلة في تحفيز المجتمع كي يعتمد على نفسه، فتحققت إنجازات كبيرة في أوقات يسيرة، وتجربة الحصار وحدها كافية؛ كي نستخلص تجاربها وخبراتها في كيفية تسيير مؤسساتنا تحت أي ظرف من الظروف.. لكن العوائق التي تواجهنا في هذه الذهنية هو أن علينا أن نغير مفاهيمنا للحد من المغالاة في ثقتنا في الخبراء الأجانب الذين يعيشون في دول كبرى خاضت مغامرات وحروبا وأدخلتنا والعالم في أزمات كبرى في السنوات الأخيرة، فمثلا كيف حدثت الأزمة العالمية ومن أين بدأت؟ ولماذا لم تنفع بيوت الخبرة والاستشارة في تجنيب العالم تبعات هذه الأزمة، ولماذا لم تستطع بيوت الخبرة التنبؤ بالمشكلات رغم توفر المعطيات لديها..إن هذه الانتكاسات والمغامرات لا بد أن تغير بعض الشيء من قناعتنا تجاه الخبراء الأجانب. وإذا تبين ذلك فالسؤال الذي يعرض نفسه بشدة، كيف نبني بيوت خبرة محلية؟ والجواب يتمثل في النقاط التالية: أولا: إن المتقاعدين يمكن أن يمثلوا النواة لبيوت خبرة وطنية، وهذا سيؤدي إلى تواصل في الأجيال، وسيشجع المتقاعد على أن يكون قيمة مضافة للمجتمع الذي سيتفانى في تزويده بما يملك من خبرات وتجارب. ثانيا: الاستعانة بالجامعات ومراكز البحث العلمي المحلية، وتوجيه الدراسات الأكاديمية لخدمة متطلباتنا الوطنية في كل المجالات. ثالثا: تكوين خبراء وطنيين وتأهيلهم محليا وابتعاثهم خارجيا في الجامعات والمؤسسات؛ وهؤلاء سيرجعون بثقافة عالمية انطلقت من المحلية، ومن ثم سيكونون أكثر قدر على تقديم الرؤى والتصورات الأكثر منطقية. رابعا: اتباع سياسة تقيم الأداء بشكل دوري لبيان منطقية التصور المعروض وصلاحيته للاستمرار. إن توطين الخبرات ليس معناه أن نتقوقع على أنفسنا في الداخل، بل معناه أن تكون مراكز التفكير في قطر وأماكن التنفيذ والاستثمارات في الخارج، مثل الإنسان له رأس يفكر به ويتحكم في كل حركاته وسكناته وأطراف يتحرك بها في فضاءاته، يراقب العالم بعين، وما تحتاجه قطر من تطوير بعين ثانية..والسؤال الثاني من المسؤول عن توطين بيوت الخبرة، هل هي الدولة أم المجتمع؟ والجواب يتمثل في أن الجميع مسؤولون عن هذه المسألة، مؤسسات التعليم والدولة وأصحاب الشركات ...فهذا الهدف ينبغي أن يكون استراتيجيا، فالعقبة الكبرى التي تواجه الخريجين في مجتمعاتنا العربية أن التحصيل الأكاديمي لا يكفي لممارسة العمل، ومن ثم يكون شرط الخبرة للتوظيف ضروريا، ومن أين تأتي الخبرة إذا رفضت الشركات تشغيل الخريج الجديد، وبذلك تخسر المؤسسات عناصر شابة قد تتوجه إلى وسائل أخرى لا تناسب قدراتها أو قد تنحرف عن مسارها إلى ما يضر المجتمع بسبب الإحباط الذي واجهته في الحصول على فرصة عمل تكون سببا في بناء خبراتها، ولذلك فإن توطين الخبرة من هذه الناحية يعد صمام أمان للمجتمع وإستراتيجية وطنية لا غنى عنها، وقد أحسنت وزارة التنمية الإدارية والشؤون الاجتماعية في عرض برامج تدريبية مكثفة في هذا الجانب، لكنها تحتاج إلى متابعة وتكثيف وتقييم مستمر للأداء؛ كي تتحقق الغاية المنشودة منها. إن التوطين التقليدي هو وضع المواطن في وظيفة، وتلك مسئولية أية دولة تبحث عن رفاهية مواطنيها، صاحب ذلك المفهوم التقليدي الكثير من الانتقادات من البطالة المقنعة إلى تراجع الكفاءة وتردي الإنتاجية وزيادة التكلفة على الدولة والمجتمع، ولكن اليوم التوطين يعني توطين الخبرات... الممارسات... المهارات والمعرفة، توطين الشركات والاستثمارات وتوطين المشاريع وإنشاء الشراكات والتحالفات.. التوطين هو تمكين الشباب من القيادة ...من المبادرة ...من إنشاء الأعمال ...من تحقيق أفكارهم ...من مجاراة العالم في الابتكارات والاختراعات... ومن المساهمة في تنمية الاقتصاد . تحركنا مسافات طويلة كي نصل لهذه الخيارات ونصبح شركاء في تنمية الاقتصاد العالمي، امتد وتوسع مفهوم التوطين ليشمل مفهوم توطين الأفكار والممارسات والخبرات في الخارج من خلال الاستثمار في مختلف دول العالم حيث يكسب شبابنا الخبرات من خلال ممارسة العمل خارج حدود الدولة، ومن خلال الشركاء في العمل؛ ولذلك تطور مفهوم توطين ليصبح التوطين النوعي للمعرفة، وأفضل وأرقى الممارسات من خلال المساهمة في الاقتصاد العالمي واختيار أفضل الشركاء و العمل معهم، لقد اتسع مفهوم التوطين مع مراكمة الخبرات والزيادة في الثقة نتيجة للمكتسبات والنجاحات ، وهذا المسار أصبح عقيدة لدى المجتمع ومفهوما متفقا عليه ومنه يمكن لقطر والاقتصاد من تحقيق طموحات الإنسان على أرض قطر ويجعل سقف الممكن على أعلى المستويات. [email protected]