13 سبتمبر 2025

تسجيل

عن الدولة والأسطورة

04 مارس 2015

الأسطورة كما يعرفها البعض، تشير إلى تلك الوقائع الموغلة في القدم، التي تكتسب قيمتها من تكرار روايتها لا من تحققها الفعلي، فالنمط الذي تشير إليه الأسطورة يكون غير ذي زمن محدد، وهذا ما يجعل بالإمكان استدعاؤه في أي سياق. من ناحية أخرى تمثل الأسطورة وسيلة فعالة للتعايش مع التناقضات، على اعتبار أنها تحوي تفسيرات لجميع المواقف المتضاربة، وأخيرا فإن الأسطورة لا تكتسب معنى خاصا بها إلا من خلال الطريقة التي يتم تركيب عناصرها بها من أجل استخلاص معاني معينة منها، وعادة ما تقف الأسطورة في مواجهة النظرية العلمية، فهي كالحلم في مواجهة الواقع.ولسبب ما يتقولب الجدل حول مفهوم الدولة في عالمنا العربي في إطار معنى الأسطورة السابق، يستوي في ذلك الخطاب الذي يتبنى حل "الدولة الإسلامية"، والخطاب المقابل الذي لا يقبل بأقل من "علمنة الدولة". فكلا الطرفين يتحدث عما يتمناه، أكثر مما يمكن تحقيقه فعليا على الأرض، كما أنه في طرحه لنموذجه، يغبش على عدد من التناقضات التي تحتاج إلى معالجة بأكثر مما تحتاج إلى إخفاء، وأخيرا فإن كلا الطرفين يحدد معنى نموذجه على نحو توفيقي، وعلى حسب الجدل الذي يضطر لخوضه، ولا يلتزم بتصور محدد لما يتبناه أو يدعو إليه.فالخطاب الأول يقدم الدولة الإسلامية بوصفها حلما ليس له ملامح محددة، وحلا شاملا لكافة المشكلات غير المعرّفة بدقة، وتصورا ذا طبيعة مثالية لا ينتمي لعالم الأرض، تكمن قوته في مشاعر أفراده وعاطفتهم المشوبة بالرغبة في التضحية، وليس في كفاءتهم وخبرتهم العلمية والعملية، وفي إطار هذا الكيان تسقط النظريات وترتفع الأيديولوجيات، ويضحى بالتفاصيل لصالح الشعارات، ويتراجع العلم وتتقدم المعجزات، ففي إطار الدولة الأسطورة لا يقف ضعف القدرات أو غياب الإمكانات عائقا أمام تحقيق الإنجازات، (فيما يبدو كخرق لسنن الله الماضية في الخلق.)وفي إطار هذا الشكل الأسطوري تبدو الدولة المنتظرة على غير وفاق مع عالم المحسوسات، أي ما يمكن الوصول إليه من خلال الحواس، فوسائلها حزمة مما يتخيل أفرادها أنها يمكن أن تكونه، فصفة الإسلامية هنا هي الضامن لاجتياز العقبات، حتى لو كان هناك أقل القليل مما هو معلوم عن طبيعة هذه العقبات وأفضل الأساليب للتعامل معها.وبدوره فإن الخطاب الذي يروج للدولة العلمانية يقدمها على شكل أسطورة مضادة، فهي وإن لم تتحقق في الماضي في عالمنا العربي، فإنه يتم الرهان باستمرار على إمكانية تحققها في المستقبل. فهي تمثل الحداثة، والتنوير والتطور وكافة المفاهيم الإيجابية الأخرى (بشرط ألا تتضمن غيبا من أي نوع)، وهي دولة تتيح للناس أن يعيشوا بشرا من أجل مصالحهم، لا ملائكة من أجل مبادئهم. وهي دولة العالم المادي، الذي يمكن أن يرى ويحس ويستمتع به، وهي دولة العقل والمعلومات والتغلب على المشكلات، ليس فقط التي تنتمي لعالمها، ولكن التي تنتمي لعالم الغارقين في أحلام الحل الديني، وذلك عبر إعادة تأهيلهم ودمجهم بداخل العالم الموضوعي الذي لا مكان فيه للقيم أو المبادئ المفارقة، والذي لا يتحيز للخير ضد الشر، على اعتبار أن الخير والشر مفهومان نسبيان تصنعهما خبرات البشر واختلافاتهم الثقافية. وقد كان الانفصام بين الأسطورتين عاملاً مساعدا لكلاهما على التطور، لأنه من خلال هذا الانفصام استطاع كل طرف أن يستمر في تأكيد خصائصه المضادة لخصائص الآخر، وقد تفاقم ذلك بعد نشوب ثورات الربيع العربي حيث كان الكثيرون من أنصار الحل العلماني يخشون من نجاح الإسلام السياسي في تحقيق مشروعه، لأنه سيخرجهم من عالم الدولة الحداثية إلى عالم الدولة الرجعية على حد زعمهم. ومن ناحية أخرى كان أنصار الحل الإسلامي محبطين من أن التجارب التي خاضوها في أعقاب الثورات لم تسفر عن نمط الدولة التي كانوا يحلمون بها ويرسمونها في مخيلتهم، ما أتاح لنموذج العلمنة أن يظل في الصدارة.الشاهد أن منطق الأسطورة ظل مهيمنا على أذهان كلا الطرفين على حد سواء، رغم أن أيا من الأسطورتين لم يتح له التحقق فعليا على الأرض، ما أتاح لقوى الوضع الراهن أن تعيد تأكيد سطوتها وتستعيد سيطرتها. والسؤال هو هل يمكن التخلص من منطق الأسطورة، لصالح البحث فيما ينبغي أن تكونه الدولة (أو ذلك المجتمع السياسي العادل أيا ما كان اسمه) عمليا، وهل يمكن أن تلتقي الأسطورتان في بعض الزوايا، أم أن عناصر التنافر بينهما أكبر من عناصر الالتقاء؟المبشر أن أقلاما شابة كثيرة بدأت في مناقشة هذه التفاصيل على نحو تفاعلي وجاد، على مواقع التواصل الاجتماعي ومنتديات شبكة المعلومات الدولية، ولكن يعيبها عدم استفادتها من الأدبيات المهمة التي أنتجت بالفعل تحت هذا العنوان، لمفكرين كبار مثل حامد ربيع وسيف عبد الفتاح ومحمد عابد الجابري ونزيه الأيوبي، وهم من سنتناول أبرز مقولاتهم في مقالات تالية إن شاء الله.