18 سبتمبر 2025
تسجيلكل من أكرمه الله بقراءة التاريخ يدرك ما تخفيه المصطلحات من "فخاخ" أيديولوجية فهي تستعمل لتبرير العدوان وتزين القبيح من الأعمال. وإني دائم الحذر عندما أقرأ عبارة (الإرهابي) تلصق بمقاوم للظلم أو بطالب حق. ولم يستثن الربيع العربي أدبياته من توظيف نعت الإرهاب دون تمحيص فأصبحنا نسبح في بحار الإرهاب من هنا وهناك دون منارة حتى أصبح مصطلح الإرهاب هو الأكثر استعمالا ورواجا في لغة السياسة والإعلام والأدبيات الفكرية في كل أرجاء العالم اليوم، وهو أمر طبيعي بالنظر إلى تفاقم ظاهرة الإرهاب واستفحال معضلات الشعوب المغلوبة على أمرها وتزايد محنة المستضعفين في الأرض وقيام العولمة بإلغاء الحدود وتحطيم الحواجز أمام الأخبار والمعلومات والناس والبضاعة. ولكن الذي يقرأ التاريخ يكتشف حقائق غريبة وغير متوقعة لتحديد مفهوم الإرهاب عبر مراحل التطور البشري ويدرك بأن هذا المصطلح استعمل دائما لوصف الشيء ونقيضه واستخدم من قبل الأعداء والخصوم لنعت بعضهم البعض وظل لهذا السبب مصطلحا هلاميا غامضا وخفيا لا يمكن تصنيفه بموضوعية ولا إلقاؤه جزافا على كاهل هذا أو ذاك من الشرائح البشرية. وأنا ذاتي كانت بعض الصحف التونسية الصفراء خلال العشريتين الماضيتين تلقبني بالإرهابي! عندما كنت مجرد مثقف متعفف معارض ناصح للرئيس السابق بن علي تماما كما كانت نفس الصحف تصف الشيخ راشد الغنوشي ود. منصف المرزوقي والمهندس حمادي الجبالي! ولعل التعريف الذي تقدمه السيدة كلينتون (أخيرا في مؤتمر تونس) أو السيد بوتن (أخيرا في حملته الانتخابية) مثلا لتوصيف الإرهاب وتحديد معناه يفتقد المرجعية التاريخية ويقع بذلك في المزالق الأيديولوجية مما يجعل هذه التعريفات ظرفية ومرتبطة إما بمصالح الدولة الأمريكية أو المعسكر الروسي الصيني عموما أكثر من ضبط المفهوم اللغوي والسياسي للكلمة فالدبلوماسية الأمريكية والروسية والصينية تؤكد بأن الإرهاب هو قتل الأبرياء تحت أية ذريعة كانت. وهو تعريف يبدو موضوعيا وصائبا بل متفق عليه من دون جدل، لكن المنطق يقتضي أن يطلق هذا المفهوم على الجيوش النظامية التي تقتل الأبرياء كذلك وبصورة أوسع تحت ذرائع شتى ولكن خارج إطار كل الشرائع الدولية منها والأخلاقية فإسرائيل وحليفها الأمريكي مثلا حين ينعتان مسلحي حماس والجهاد الإسلامي بأنهم إرهابيون لأن استعمال القوة وحمل السلاح لا يخول إلا للأنظمة والدول وإلا تحول الأمر إلى فوضى، لكن ماذا نقول عن مليون مسلح مدني إسرائيلي مدججين بالرشاشات هم أيضا خارج النظام وخارج الدولة الإسرائيلية بكل المقاييس ويقتلون ويلاحقون ويعذبون ويختطفون بلا قانون فكيف نسمي الأولين إرهابيين والآخرين مدافعين عن أنفسهم؟ فأبسط قواعد التصنيف الموضوعي تدعونا إلى اعتبار المدني الإسرائيلي المسلح والذي يهاجم المدنيين كذلك إرهابيا بنفس المعايير التي تطبق على مسلحي حماس والجهاد، حتى إذا جاريناها وألغينا حقوق الشعوب المحتلة في الكفاح من أجل التحرير بكل الوسائل حسب نص ميثاق الأمم المتحدة! ثم إن التاريخ يعطينا دروسا وعبرا لا بد من استحضار بعضها في مفهوم الإرهاب. ففي حملة بونابرت على مصر قامت ثورة القاهرة في 22 أكتوبر 1898واستمرت ثلاثة أيام استشهد فيها علماء وطلبة الأزهر الشريف على أيدي قوات الاحتلال الفرنسية وكان الضابط والمؤرخ الفرنسي/ فيفان دونان ينقل في أوراقه ذلك الحدث ثم نشرها في كتاب يسمي فيه الثوار بالإرهابيين! ثم نقرأ منذ سنة 1830 كل الصحف الفرنسية لنجد أن الأمير عبد القادر الجزائري أمير القلم والسيف والذي قاوم الاستعمار منعوت في الإعلام والبرلمان الباريسي بأنه زعيم الإرهابيين! وفي مجلة باري ماتش أشهر المجلات الباريسية عدد 18 يناير1952 نقرأ بقلم مدير المجلة/ ريمون كارتييه بأن الحبيب بورقيبة إرهابي يخفي وراء عينيه الزرقاوين حقدا إسلاميا ضد فرنسا والغرب! مع العلم أن بورقيبة علماني ومتأثر بالغرب وثقافته ومن أنصار مصطفى كمال أتاتورك! أما في جنوب إفريقيا ومنذ اندلاع شرارة مقاومة الميز العنصري في الستينيات فإن كل وسائل الإعلام البيضاء مع الحركات المتطرفة العنصرية كانت تجمع على تلقيب نيلسن منديلا بلقب كبير الإرهابيين! وفي فرنسا ذاتها كان الجنرال ديجول بعد انشقاقه عن الحكومة والالتحاق بلندن عام1940 لتنظيم صفوف مقاومة النازية وتحرير فرنسا، كان ملقبا في الإعلام باسم زعيم الإرهابيين وكان محكوما بالإعدام ولاجئا في بريطانيا إلى حين تحررت أوروبا من النازية وعاد الجنرال مظفرا يوم 19 أغسطس 1944 إلى باريس والغريب أن حكومته لاحقت أنصار الماريشال/ بيتان المتعاون مع هتلر وسمتهم بدورهم إرهابيين وأعدمت منهم الآلاف! وأنا ابتعدت عمدا عن تاريخ العرب في النصف قرن الأخير لأن الجراح لا تزال نازفة وهو تاريخ الانقلابات المتعاقبة والتخوينات المتلاحقة والاتهامات المتبادلة بالإرهاب، تاريخ الشعارات المخزية التي عصفت بأبناء الأمة مابين الناصرية والتقدمية والبعثية والقومية والاشتراكية والتي كنا نشهد خلالها مشاهد القتل والسحل والسجون والمنافي لمن اتهموا بالإرهاب ثم عادوا للحكم بعد أن داسوا على رقاب المنهزمين وذبحوهم بتهمة...الإرهاب! لهذه الأسباب ولأن الله سبحانه هداني لقراءة التاريخ واستخلاص عبره فإني أظل شديد الحذر في استعمال مصطلح الإرهاب!