16 سبتمبر 2025

تسجيل

حماية البيئة في حضارتنا الإسلامية "1"

04 فبراير 2013

تقدم الحضارة الإسلامية إسهاماً متميزاً، في مجال الحفاظ على البيئة وحمايتها من التلوث، فإذا كان اهتمام العالم بقضية البيئة قد ظهر في أوائل القرن العشرين، وتكشف خلال العقدين الماضيين، فإن اهتمام علماء المسلمين الأوائل بهذه القضية قد ظهر منذ أكثر من عشرة قرون، حيث سجلوا في كتاباتهم ما يشير إلى المفهوم الاصطلاحي للبيئة وعرضوا للعلاقة بين الإنسان والبيئة، بل إن ابن خلدون قد أشار إلى التوازن والتكامل بين عناصر النظام البيئي ومكوناته الذي يطلق عليه علماء الغرب (النظام الايكولوجي). وقد كانت حماية البيئة من التلوث من المهام الأساسية للمحتسب التي كان يمارسها في الأسواق، بل إن القضاة والفقهاء المسلمين قد أصدروا أحكاما بنقل المصانع الملوثة للبيئة بعيداً عن المناطق السكنية، قبل أن يبدأ بتطبيق هذه الفكرة في الغرب بأربعة قرون. وقد كانت العلاقة بين الإنسان والبيئة من الموضوعات الرئيسية التي اهتم بها العلماء والرحالة العرب والمسلمون وسجلوها في كتاباتهم. ويأتي حديث علماء المسلمين الأوائل عن البيئة وعلاقتها بالإنسان عادة في سياق تناولهم لعلم الجغرافيا ونجد إشارات لهذه العلاقة عند كثير من العلماء العرب الذين كتبوا في علم الجغرافيا أو تقويم البلدان مثل: المسعودي في كتاب "التنبيه" والمقدسي في "أحسن التقاسيم" وابن فضلان في "رسالة ابن فضلان" وابن خلدون في "المقدمة". ويعرض المسعودي لتأثير البيئة على أخلاق الناس وأمزجتهم، ويرى أن المناطق التي تتوافر فيها الماء ينعكس تأثير الرطوبة فيها على خلق الناس، وإذا لم يوجد الماء يسود تأثير الجفاف في أخلاق البشر وأمزجتهم، ويسجل المسعودي تأثير المناخ على الإنسان عند أهل الربع الشمالي من العالم فيقول: "وهم الذين بعدت الشمس عن سمتهم، من الواغلين في الشمال وكالصقالبة والافرنجة ومن جاورهم من الأمم، فإن سلطان الشمس قد ضعف عندهم لبعدهم عنها، فغلب على نواحيهم البرد والرطوبة وتواترت الثلوج عندهم والجليد، فقل مزاج الحرارة فيهم فغطت أجسامهم وجفت طبائعهم...". والبيئة عند ابن فضلان لا تؤثر فقط على أساليب السكان في التغذية واختيار الملابس والاهتمام بإبقاء النار بل تؤثر على حركة التعامل الاقتصادي فيما بينهم فيصيبها ما يشبه الركود فيقول: "ولقد رأيت لبرد هوائها بأن السوق فيها والشوارع لتخلو حتى يطوف الانسان أكثر الشوارع والأسواق فلا يجد أحداً ولا يستقبله أحد". أما ابن خلدون فيعتبر البيئة الجغرافية دعامة مهمة لمختلف الظواهر الاجتماعية كما أنه تميز بقدرة فائقة على ربط المشاهدات الحسية بالقضايا النظرية العامة في هذا الميدان لتأكيد الأثر الفعال لعوامل البيئة على العوامل الثقافية في المراحل الأولية للاجتماع البشري، إلى الحد الذي يجعل من ابن خلدون رائداً للحتمية البيئية قبل دعاتها في الغرب بأربعة قرون. والبيئة عند ابن خلدون مكان تتوافر فيه امكانات معينة، الإنسان وحده فيها للاستفادة من هذه الامكانات واحداث التغيرات فيها، بحسب ما تقتضيه ظروفه في المعاش، والعمران البشري، فالإنسان يمكن أن يستفيد من الأرض فيزرعها أو يكتفي برعي الحيوانات فيها أو يقيم عليها المدن بطرقها ومرافقها. وتأخذ البيئة عند ابن خلدون أوصافا عدة، تعبر عن خاصية كل نوع منها، فهو يتحدث من المعمور من الأرض وعن الخلاء والقفر والتلول والرمال للدلالة على الخصائص الطبيعية، وعندما يود إضافة الخصائص البشرية والعمرانية لها يتحدث عن البدو والحضر. أما مكونات البيئة في رأي ابن خلدون فهي مترابطة محكمة الترتيب فهو يقول في مقدمته: "إننا نشاهد هذا العالم بما فيه من المخلوقات كلها على هيئة من الترتيب والاحكام وربط الأسباب بالمسببات واتصال الاكوان...". هذا وللحديث بقية.