17 سبتمبر 2025
تسجيلالزوبعة الفنجانية التي يثيرها باقان أموم رئيس وفد دولة جنوب السودان المفاوض في أزمة النفط بين الخرطوم وجوبا، تذكرنا باستغلال النازية السيئ للإعلام في التدافع السياسي بين الدول.. باقان وعبر الصراخ عبر الإعلام صوّر بلاده وكأنها (الضحية) بينما الخرطوم (الجاني) بيد أن الخرطوم نقلت نفط الجنوب لأكثر من (6) شهور دون أن تسدد جوبا أي رسوم نظير استخدامها لمنشآت ومرافئ تصدير النفط في السودان، علما بان الخرطوم ظلت ترسل شهريا فواتير الرسوم إلى جوبا دون أن تتلقي أي رد!!.. حكومة الجنوب وضعت شروطاً تعجيزية من أجل الوصول إلى اتفاق كإصرارها علي تضمين بعض المواضيع الأخرى (إقرار حكومة السودان تبعية أبيي إلى الجنوب والتخلي عن المناطق الحدودية المختلف عليها) والمعلوم أن ترسيم الحدود بين البلدين (نحو 2175 كلم) يستغرق وقتا طويلا فضلا عن الاتفاق على مناطق الخلاف قبل الترسيم الميداني.. باقان ظن أن جوبا هي واشنطن عندما قال: "عندما نتفق على رسوم نقل البترول فإننا سنعتبرها (مساعدات) من جوبا للخرطوم لحل أزمتها الاقتصادية وسنشترط ألا تستخدم هذه المساعدات ضد (المقاتلين) في دارفور؟!!". لم يكن الظن يوما أن يصل استخدام الإعلام في السياسة فظاعة باقان والنازية.. نعم ازداد أثر الخطاب السياسي بسبب انتشار الفضائيات التي تنقل هذا الخطاب صوتاً وصورةً إلى جمهور غائب، وهو ما يجعله أكثر تأثيراً من الخطاب المسموع والمقروء لأنه بذلك احتفظ بانفعالات المرسل وأدواته الأدائية التي تؤثر في المتلقي وتقنعه وتثيره تجاه الحدث.. تقوم عمليات التحول السّياسي والاستمالة، وذرع المعتقدات الجديدة، على استخدام أساليب قتل العقل Menticisol كما يقول عالم النفس الهولندي ميرلو، لأنها تحيل الإنسان إلى كائن لا حول له ولا قوة، وتخضعه إخضاعاً للتعاليم الجديدة، إذ تتضافر فنون الضغط الثقافي والعاطفي مرتبطة بالضغط البدني للسيطرة على الإنسان الضحية، وتحويله إلى فرد له عقلية جديدة عن طريق حمله على الاعتراف بأخطائه وإزالة هذه الأخطاء توطئة لتثقيفه من جديد.. تاريخيا كان استخدام الإعلام في السّياسة أمرا ليس بالغريب فذاك ابن خلدون يقول في كتابه "مقدمة ابن خلدون": "أعلم أن السيف والقلم كليهما آلة لصاحب الدولة يستعين بهما على أمره.. والقلم منفذ للحكم السلطاني" ويمضي يقول إنه في مرحلة من مراحل الدولة: "يكون أرباب الأقلام أوسع جاهاً من أرباب السيوف وأعلى رتبةً وأعظم نعمةً وثروةً وأقربُ من السلطان مجلساً وأكثر إليه تردداً وفي خلواته نجيّاً.. ليس من السهل أن نعيش بعيداً عن معطيات عصر الصورة التليفزيونية، فقد كانت هناك أهمية سياسية وإعلامية متعاظمة لتلك الصورة التي ربما التقطت مصادفة للرصاص الإسرائيلي الذي انهمر على الطفل الفلسطيني محمد الدرة الذي كان يحاول الاختباء منه في حضن والده. وقد صنعت هذه الصورة تأثيراً كبيراً في الرأي العام العربي وحتى العالمي. في التاريخ السوداني استفاد قادة عظام من ضغط الإعلام في مواجهة المستعمر البريطاني، وإجباره على اتخاذ قرارات سياسية لصالحهم. فعندما رفع سجناء سجن رشيد بمصر من قادة المهدية - من بينهم عثمان دقنة - تظلماً إلى مصلحة المخابرات وسلاطين باشا مفتش عام السودان في العام 1908م يشكون فيه من سوء أوضاعهم في السجن، سرعان ما أبدت الصحافة المصرية اهتمامها بالقضية وظهرت المقالات في صحف "الأهرام" و"المنبر" و"اللواء" خاصة "السياسة" الناطقة باسم حزب الأحرار التي نشرت مقالاً نارياً بعنوان "الرحمة فوق العدل.. عثمان دقنة: السجين الخالد" حيث عبّر صاحب المقال عن قناعته بأن أولئك السُجناء ليسوا مجرمين وإنما هم عظماء بلادهم وإن ما قاموا به لا يتجاوز حدود الحق المقدس للدفاع عن أراضيهم ضد الغزو الأجنبي. وفيما بعد غيّرت السُلطات البريطانية معاملتها لأولئك السُجناء ونقلتهم إلى سجن في مدينة حلفا داخل السودان وسمحت للقائد عثمان دقنة بأداء فريضة الحج. في حقيقة الأمر أن رئيس وفد حكومة جنوب السودان كان يهدف إلى خلق أزمة من خلال استمرار بياناته الإعلامية السالبة بالإضافة إلى قرار إغلاق حقول النفط في وقت كانت فيه الاجتماعات منعقدة بين الطرفين في أديس أبابا.. في ظل رفض حكومة دولة جنوب السودان المتكرر للمقترحات التي قدمت من الوسطاء وتقاعسها عن تسديد الرسوم المستحقة لحكومة السودان، وعدم تقديمها لأي مقترحات من أجل الوصول إلى اتفاق، فقررت حكومة السودان أخذ مستحقاتها وأداء لواجبها الدستوري. وقد أخطرت حكومة السودان حكومة الجنوب والشركات قبل وقت كاف بقرارها.. لكن باقان مارس دعاية سوداء وأشاع عبر الإعلام أن السودان يسرق نفط الجنوب!!.