22 سبتمبر 2025
تسجيلقُدّر لي أن أتحدث معه لمرة واحدة، وإن كنت رسمت له صورة استوحيتها من حوار يتيم دار بيننا على مدار ساعة متواصلة عبر شبكة التواصل الاجتماعي "سكايب" قبل نحو شهر، بدا لي الدكتور مراد دهينة الذي كنت تعرفت به لتوي، رجلاً مهذباً، لا يعيق حياؤه لسانَه فينطلق متدفقاً في سرد ما يريد قوله دون وجل أو تردد، منتقياً مفرداته بدقة، يحمل على ظهره عبء الوطن والمواطن، ويتملكه مشروع النهضة اجتماعياً وثقافياً ببلده الجزائر وسائر الأقطار العربية من خلال مؤسسة الكرامة لحقوق الإنسان التي تنطلق أعمالها من مدينة جنيف السويسرية حيث يشغل الدكتور مراد منصب المدير التنفيذي للمؤسسة التي تحظى باهتمام المجلس الدولي لحقوق الإنسان التابع مباشرة للأمم المتحدة. لم يدر بخلدي، وأنا أحادثه، أن تخصصه الأساس هو في العلوم الذرية، ولم يخطر ببالي أنه كان يعمل على مشروع في الفيزياء النووية كان سيرشحه لجائزة نوبل للعلوم لو أكمل بحثه فيه لولا أن نداء الوطن كان يلاحقه عند كل زاوية ومنعطف في شوارع الغربة، فالدكتور مراد دهينة الذي يقيم في سويسرا منذ عام 1987، كان قد حصل على الدكتوراه في العلوم الذرية من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا بالولايات المتحدة الأمريكية قبل أن يشتغل بالتدريس بالمعهد الفيدرالي السويسري للتكنولوجيا بزيوريخ، ومن ثم في الفيزياء النظرية بالمركز الأوروبي للبحث النووي بداية التسعينيات بعد أن حالت الأحداث التي مرّت بها الجزائر من أن يخدم أهله وبلده من خلال عمله فيها. ورغم هذه القامة العلمية التي يتمتع بها الدكتور مراد إلا أنه كان محروماً من حقوقه المدنية والسياسية في بلده الجزائر، كما حُرم من جواز سفره بسبب مواقفه السياسية المناهضة للنظام بعد انقلاب العسكر على الانتخابات أو ما يسمى بوقف المسار الانتخابي الذي أتى بالجبهة الإسلامية للإنقاذ إلى سدة البرلمان في العام 1992، إذ انضم الدكتور مراد إلى الجبهة بعد قرار حلّها من قبل السلطات الجزائرية وأصبح مدير مكتبها في الخارج إلى أن خرج منها في العام 2004 عقب إطلاق سراح قيادييها الشيخين عباسي مدني وعلي بلحاج بسبب الخلاف في التوجه السياسي مع قيادات في الجبهة، حيث سعى بعدها إلى تأسيس منظمة الكرامة لحقوق الإنسان في العالم العربي مع عدد من الشخصيات العربية المرموقة، ومن ثم تأسيس حركة رشاد في العام 2007 إلى جانب قيادات سياسية جزائرية معارضة، هدفها إحداث تغيير جذري في السلطة السياسية الجزائرية عن طريق المقاومة السلمية البعيدة عن العنف وأدواته، بعد أن أعلن رفضه لـ"ميثاق السلم المصالحة الوطنية في الجزائر" مطالباً بتحقيقات شفافة ومستقلة حول الأحداث التي أودت بحياة مئات الآلاف الجزائريين ومعاقبتهم. وكانت السلطات القضائية في الجزائر أصدرت مذكرة توقيف بحقه وأودعتها الإنتربول الدولي متهمة إياه بعلاقات مع الجماعة الإسلامية المسلحة، وقد حكم عليه بـ 20 سنة سجنا. بقي الدكتور مراد على مواقفه السياسية رغم الضغوطات التي لاحقته في دهاليز الغربة إلى أن تمّ توقيفه على يد السلطات الفرنسية في 16 يناير 2012 في مطار أورلي بباريس حيث كان عائداً إلى جنيف بعد مشاركته في اعتصام نفذته حركة رشاد أمام السفارة الجزائرية في باريس، وجاء التوقيف الفرنسي له مستنداً على تهمة وجهتها السلطات الجزائرية له بالعمل على تكوين مجموعة "إرهابية" مسلحة في الأعوام 97 و98 و99 في الخارج وقيادتها وقيامها بعمليات في زيوريخ في سويسرا، علماً أنه كان يتنقل بين دول الاتحاد الأوروبي جميعها دون عائق رغم مذكرة التوقيف الجزائرية الصادرة بحقه منذ العام 2003م، ما يعزز فرضية الاعتقال السياسي بضغط من السلطات الجزائرية كما يقول أصدقاء الدكتور مراد، وبهذا يصبح توقيف دهينة خرقاً للاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان والاتفاقية الدولية لحماية اللاجئين ولبروتوكول دبلن لحقوق الإنسان. وإذا كنّا نطالب السلطات الجزائرية بأن تعتبر من أحداث العام 2011 ومآلات الأنظمة السلطوية الشمولية في العالم بعد تفتح زهور الربيع العربي الذي يزحف في كل الاتجاهات انطلاقاً من الجارتين تونس وليبيا وأن تعمل على تغيير مسار الملاحقات لقيادات وكوادر سياسية وعلمية مرموقة وأن تحتضنها بدلاً من التضييق عليها وإقصائها وأن تكافح في فتح أبواب الديمقراطية والنزاهة والشفافية لكل جزائري شريف في حال كانت ترغب تجنيب بلادها مآل ما وصل إليه كل من "بن علي" و"القذافي" و"مبارك"، فإنا نحث منظمات حقوق الإنسان العربية والعالمية وكذلك مؤسسات المجتمع المدني المعنية بحماية الأفراد والمجتمعات من العنف والاضطهاد السعي الحثيث والتحرك العاجل لدى السلطتين الفرنسية والجزائرية لإطلاق سراح الناشط السياسي الدكتور مراد الذي لم يثبت عليه أي تهمة وهو الذي خضع لتحقيقات مطولة لدى القضاءين الفرنسي والسويسري خلال فترة إقامته في أوروبا، كما أحثّ زملائي الإعلاميين والصحفيين للقيام بما يمكن القيام في إطار العمل الصحفي والإعلامي للدفاع عن قضية الدكتور مراد الذي ما فتئ يدافع عن حقوق الإنسان الأساسية وحقه في التعبير والممارسة السياسية الحرة من خلال نشاطاته التي لم تتوقف حتى بعد اعتقاله في مؤسسة الكرامة لحقوق الإنسان، وألا يكون مصيرنا كحال الثور الأسود الذي قال: أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض".