19 سبتمبر 2025
تسجيلراج عن تونس أنها معجزة اقتصادية. احتلت المرتبة الأولى مغاربيا وإفريقيا في تصنيف التنافسية الاقتصادية والمرتبة 35 على الصعيد العالمي. مع نسبة نمو بمعدل متوسط يقارب 5%. لكنه كان نمواً بلا تنمية حقيقة. نمواً مزوراً يخفي البطالين (14%) تحت السجادة. إذ أن "المعجزة الاقتصادية" الظاهرة كان تدار سياسياً بمنطق اقتصاد الفساد الاستبدادي. حيث يسيطر بن على، بعائلته: إخوته وأخواته وأبناؤهم وبعائلة زوجته ليلى الطرابلسي التي تتكون من إحدى عشر أخاً وأختا وأبنائهم، على نحو 40% من الاقتصاد التونسي في اقتصاد السياحة بكل مقوماته واقتصاديات الاتصالات الهاتفية والأعمال المصرفية والعقارات... بحيث كانت تونس تخسر بسبب الفساد المالي مليار دولار سنويا. وقدرت تقارير صحفية ذات مصداقية ثروة بن علي بنحو ثمانية مليارات دولار وثروة زوجته مع عائلتها "الطرابلسية" أكثر من اثني عشر مليار دولار: نقدا وأصول ثابتة. لذا لم تكن تلك "المعجزة الاقتصادية" المبجلة في دوائر الغرب السياسية سوى واجهة استعراضية للنموذج المفضل لأوروبا وأمريكا باعتبار ابن علي الحارس الأمين لمصالح الغرب وجنرالها "الزين" بل قل عميلها البلطجي بدعوى صدّ شبح الأصولية عن أوروبا. وهكذا بدعم الغرب لجنراله المحبوب وسكوته على قمع القوى الديمقراطية أصبح ابن علي زين المستبدين والفاسدين. لقد أمعن في إذلال معظم التونسيين بعقلية عسكرية فاشية عميل لسيده الأجنبي. وترك مقدرات الدولة واقتصادها الاستثماري مستباحة لأفراد عائلته وعائلية الطرابلسية بزعامة حرمه غير المصون. من هنا شكّل مشهد بوعزيزي الناري خلاصة تراجيدية لتطهر الذل بالنار. إنها ولا شك ثورة خلاصية بالمعني الجذري للفعل الثوري. حيث أدرك كل تونسي أن خلاصه بخلاص غيره. بتونسي لصق تونسي وتونسية لصق تونسية: شبيبة وأهالي، توسعت دائرة الرفض الاجتماعي من حيزها المبتدئ في سيدي بوزيد إلى ما حوله وحوله وحوله، حتى صار سيدي بوزيد كل تونس. لأسابيع متوالية أنا الليبي الذي أقع من صلتي بالتوانسة موقع "جاري يا حمودة" أستلبتني تماماً الأخبار المتدفقة من الشارع التونسي. منذ عقد مضي تجولت في ربوع تونس. كانت تبدو لي أرض فرحة لكل من يقبل عليها بماله السياحي. قضيتُ أسابيع في منتجعاتها الخاصة بسواحلها. والتقيت ببعض مثقفيها الشرفاء وما أكثرهم، الذين يفكرون ويبدعون خارج مشهد السلطة الاستبدادية الفاسدة المفسدة الممتد من بورقيبة إلى ابن علي. وبعد أكثر من عقد ونصف على آخر مرة كنتُ في تونس في طريقي إلى اللجوء السياسي في ديار الجرمان، أجدني أتابع، عبر "الجزيرة"، شبيبة تونس يحدثون المعجزة الحقيقية. معجزة ركل الطاغية خارج وجودهم بحيث وجد نفسه ومن معه منبوذا في الأجواء حتى من أسياده الذين دعموا تسلطه المرعب على التوانسة لأكثر من ثلاثة وعشرين سنة قبيحة. حتى أنهم (الفرنسيون والأمريكيون على الخصوص) استمروا لأسابيع مراهنين على نجاة جنرالهم الفاشي من السقوط فيما شهداء الشبيبة التونسية يتساقطون بصدورهم العارية، إلى أن أتأكد لهم خسارة رهانهم المحتومة. فبدلوا موقفهم من لغة السكوت المفضوح إلى لغة منافقة ثورة الشعب التونسي ومحاولة الرهان على قائد الجيش ومعه بقايا رموز النظام القديم لإعادة إنتاج نظام جديد يقطع مع عهد بن علي لكنه لا يقطع تبعته لإستراتيجية السياسة الغربية ـ الأمريكية، تحديداً، إلا وعي الشعب التونسي الثوري كان على إدراك سياسي عميق يعبر عنه رأي الشارع العام وشعاره المركزي:"الشعب يريد إسقاط النظام". وليس إسقاط بن علي فقط. أي أن الشعب الذي قضى على قضّ النظام (رأسه) كان مدركاً أن ثورته لن تنجز استحقاقاته التامة إلا بعد القضاء على قضيض النظام المتبقي. وعليه تواصلت قوافل الاحتجاجات الشعبية المدعومة بقوى المعارضة السياسية وتنظيمات المجتمع المدني لتنقية الحكومة المؤقتة من قضيض نظام بن علي. ويمكن القول إنه تحقق للشعب التونسي الكثير من أهداف ثورته بسقوط الديكتاتور. لكن الثورة التونسية لم تنجز قطعيتها النهائية بعد مع منظومة الديكتاتورية التي لا تزال فاعلة في دواليب الدولة ومؤسساتها السياسية والدستور ونصوص القانون.. كما لا يزال الخطر يتهدد الثورة التونسية من جهة مؤامرات الخارج حيث تتقاطع رغبات الجوار الإقليمي الاستبدادي والمهيمن الأجنبي (الفرنسي ـ الأمريكي تحديداً) وعدو العرب التاريخي (إسرائيل) في إجهاض استقلال تونس الثاني. وبالتالي فإن ثورة الشعب التونسي أصبحت في برزخ الخيار التاريخي الحاسم. فإما أن يمضي شعبها المتحرر إلى ذروة استحقاقه الثوري بنيل فريضته الغائبة (الديمقراطية) بما هو شعب حرّ يحكم نفسه بنفسه من خلال اختياره الحرّ لمن يحكمه من طريق صناديق اقتراع خاضعة لرقابة المؤسسات الدولية، أو أن يلعب بها جنرالات الجيش بالتحالف مع بقايا وزراء العهد المباد وبعض رموز معارضة لإعادة إنتاج نظام التبعية القديم في هيئة ديمقراطية ملفقة. في رأي أنه، رغم تمسك الجنرال رشيد ببقايا وزراء نظام الجنرال بن علي نزولاً عند رغبة السيد الأمريكي وحليفه الفرنسي، فإن روح الثورة التونسية سوف تمضي إلى هدفها المنشود بقيام نظام ديمقراطي وطني رغم أنف طغاة الجوار وباريس وواشنطن وتل أبيب. [email protected]