06 أكتوبر 2025
تسجيلليس الحديث عن قوة الأفراد هاهنا، بل الدول أو الأمم بشكل أعم وأشمل، وإن كانت قوة الأفراد - إن وجدت وتنوعت وازدادت - فهي إضافة مهمة إلى قوة الدولة أو الأمة. والقوة المقصودة هاهنا، هي تلك التي تجعل منك، سواء كنت فرداً أم دولة، كياناً واثقاً من قدراتك وإمكانياتك، وتضعك في موقع يقدره الآخرون ويحترمونه، حتى تصل إلى اللحظة المرغوبة، التي تكون فيها مرهوب الجانب من القريب والبعيد على حد سواء. إنها ذاتها اللحظة التي تعمل الدول على بلوغها، والتي يعمل من يبلغها على تعزيزها بشكل مستمر، كي تحافظ على فاعليتها وكفاءتها لأطول فترة ممكنة. في عقيدتنا وتاريخنا وثقافتنا، صار مفهوم إعداد القوة واضحاً، بل مطلباً حث القرآن عليه على شكل أمر، وطالب بإعداد العدة المناسبة لامتلاك القوة كما يتضح ذلك في قوله تعالى (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) وهدف إعداد تلك القوة (ترهبون به عدو الله وعدوكم). الأمر دقيق وواضح جلي. لكن للأسف تجد البعض منا أساء فهم الآية، بل وانتقل سوء الفهم إلى آخرين ممن يتربصون بنا الدوائر، حتى زعم زاعمون كُثُر بأن هذه الآية هي دعوة صريحة إلى الإرهاب! ذلك المصطلح المائع الذي يتم الترويج له منذ عدة عقود، والمراد من ترويجه بالطبع إلصاقه ظلماً وزوراً بالإسلام وأتباعه، في حين أن حقيقة الإرهاب المذكور في الآية، ليست تلك الداعية للقتل وسفك الدماء وإهلاك الحرث والنسل، كما يفعل أولئك المروجون لهذا المصطلح، وإنما تلك التي تجعل الغير يحترمك ويحسب خطواته إن أراد النيل منك أو التعرض لك وإلحاق الأذى بك. هذه نقطة أولى.. أما الثانية، فإن المنطق السليم غير المتحيز عند من يفهم سر هذا الدين، يدرك أن هذا الاتهام لا يتوافق أبداً مع حقيقة الإسلام، الذي جاء ليحل السلام والأمن بين البشر، ويأخذ بأيديهم إلى رحمة الله الواسعة المنتظرة، بسلام ودون أي إكراه. ليست الآية إذن كما يفهمها البعض، وهي ليست كذلك محصورة في قوة السلاح، بل تتسع لتشمل قوة الساعد أو الصحة بشكل عام، وقوة الاقتصاد والمعرفة، وقوة الفكر والمنطق، وغيرها من قوى مختلفة باختلاف مجالات الحياة المتنوعة. الغرب والشرق وفهم الآية لن أبالغ إن قلت إن الآخرين من غير ملتنا، وبحسب واقعهم الحالي، كأنما استوعبوا آية (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) وهضموا معانيها أكثر من أصحابها. هل تجد اليوم مثلاً من يتجرأ بالتحرش بدولة مثل الولايات المتحدة أو الصين أو روسيا أو بريطانيا أو حتى الكيان الصهيوني؟ غالباً لا تجد أحداً يحسب خطواته وسياساته ويدير دولته بحكمة، يتحرش بتلك القوى وما شابهها من قوى أخرى في هذا العالم. والسبب دون كثير شروحات وتفصيلات، هو أنها دول متمكنة في قوتها العسكرية والاقتصادية والعلمية وغيرها من قوى كثيرة، وصارت تعززها على الدوام، كي تكون لها كلمتها على الصعيد الدولي، بل وأحياناً كثيرة، لتفعل ما تشاء دون كثير اعتبار لرأي ما يسمى بالمجتمع الدولي. أليس هذا هو الواقع الذي نعيشه؟. إن الغرب اليوم، يتحرك بمنطق القوي ذي البأس في هذا العالم. منطقه هذا يدفعه للتحرك وفق ما تقتضي مصالحه، لا يهمه إن كانت تحركاته تتوافق أو تتعارض مع غيره، حتى وإن بدا ظاهرياً أنه يعيش ضمن منظومة واحدة هي الأمم المتحدة. فالواقع العملي يختلف تماماً عن النظري أو الافتراضي، الغرب يتحرك بناء على مصلحته وليس مصلحة آخرين - وليس في ذلك ما يعيب - وقوته في غالب المجالات الحياتية تسمح له باتخاذ القرار المطلوب، بل وتنفيذه باقتدار أيضاً. لكن المعيب أن يكون استخدام تلك القوى دون ضوابط أو أخلاقيات، بل هو عكس ما يحرص الغرب إظهار نفسه للعالم، أنه صاحب مبادئ وقوانين وقيم !. حتى تكون بين الأقوياء مفهوم إعداد القوة وإن غاب عند غالبية جغرافياتنا المسلمة، إلا أنه مفهوم أرى أنه اتضح كثيراً عند الأتراك، حتى رأيت قواهم تتنوع وتتسع وتزداد، بل باتوا قريبين جداً من اللحظة التي أشرنا إليها بداية هذا المقال، أو اللحظة المرغوبة التي تكون فيها مرهوب الجانب من القريب والبعيد على حد سواء. تركيا اليوم تعامل الغرب بنفس منطقه، وخاصة أنها صارت تقريباً تملك المؤهلات اللازمة للتعامل مع الأقوياء بنفس منطقهم، أي منطق القوة ولكن وفق مبادئها وقيمها المستمدة من عقيدتها الدينية، وهي اليوم ربما قاب قوسين أو أدنى أن تصل إلى النقطة الآمنة، التي تكون عندها صاحبة قرار مستقل، لا يعتمد على قرارات آخرين إلا بالقدر الذي يحقق مصالحها بالدرجة الأولى. وهذا ربما يفسر لك امتعاض الغرب منها، وكثرة تحرشاتهم بها ومحاولة عرقلة سيرها الجاد نحو التمكين قدر المستطاع. إنك حين تصنع سلاحك ودواءك وتنتج غذاءك، تكون ملكت قرارك واقتربت من نقطة التمكين، بعد التوكل على الله وطلب العون منه سبحانه، أما أن تفتقد إلى كل تلك العوامل وتدعو بسذاجة واضحة إلى التعايش مع الأقوياء، ورفع شعارات التسامح وما شابهها من شعارات جوفاء، فإنما ذلك يعني باختصار شديد، التعايش مع الأقوياء وفق منطقهم وشروطهم ورؤاهم، وكذلك وفق مصالحهم. لا شيء في أن تكون وتعيش بين الأقوياء، لكن أن تكون مثلهم في القوة أو على أقل تقدير، تعمل على الوصول للمستوى الذي هم عليه، وإلا فإن ذاك التعايش لا يسمى تعايشاً تنتظر أن تتساوى الأمور فيه بين المتعايشين في الحقوق والواجبات، بل هو أقرب إلى أن يكون تبعية ذليلة مذلة، وإن لم تظهر على السطح مظاهرها بشكل واضح جلي، لكن هذا هو الواقع الحاصل اليوم. وعلى رغم توفر كثير من العوامل الدافعة والباعثة في هذه الأمة لتكون ضمن عالم الأقوياء، إلا أن الأنانية والحقد والحسد مع شيء من البلاهة والبلادة والعمالة المسيطرة على غالبية أصحاب القرار، أدت بكثير من دول العالم الإسلامي إلى التشرذم، وبالضرورة بعد ذلك، حدوث تبعية ما تجاه الشرق أو الغرب، حتى ضاعت قدرات بوصلتهم على تحديد الاتجاه السليم الصحيح، فكانت النتيجة هي وضعنا الحالي، الذي لا يحتاج لكثير شروحات وعميق تفصيلات. [email protected]