19 سبتمبر 2025
تسجيلتجربة صعبة عاشتها وما زالت تعايشها حكومة الرئيس البشير منذ الأحد الماضي 27 نوفمبر المنصرف.. فقد عبرت جموع مقدرة من الشعب السوداني عن رفضها للقرارات الاقتصادية الأخيرة التي أعلنتها الحكومة والتي مست الفقراء وهم الغالبية العظمى من الشعب.. وبينما استعدت السلطات الأمنية لمواجهات مع المحتجين وأعدت لهم ما استطاعت من قوة وبأس، لزم المحتجون ديارهم في حركة احتجاجية حضارية ألجمت الأصوات الشائنة عنوانها "العصيان المدني". واحتدم الجدل بين المعارضين والموالين حول نجاح أو فشل "العصيان" بيد أن المتمعن والمتفحص لمجريات الأحداث يوقن أن امتحانا عسيرا تمر به الحكومة قد وضعها في مفترق طرق وفي مواجهة طوفان لا يبقي ولا يذر الأمر الذي يستدعي توافر حلول خارقة وغير تقليدية في إطار جراحات سياسية استئصالية لكل الأورام الخبيثة التي أخذت تنتشر في جسد الحكم. ومما يزيد من صعوبة اجتراح الحلول الذكية حالة الانفعال والارتباك التي أصابت أركان الحكم فلم تواجه حكومة الرئيس البشير منذ العام 1989 حين تسلم البشير الحكم بانقلاب عسكري، هذا النوع من الاحتجاج نوعيا وكميا. كما أن المجموعة الحاكمة أصبحت أقلية من دون سند تنظيمي قوي وعقول سياسية تفكر وتدبر الأمر وذلك بفعل عوامل التعرية والإبعاد والتهميش والاستئثار بلعاعة الدنيا. فالحركة الإسلامية وهي المرجعية الفكرية للحكم تتحمل تكلفة الأخطاء السياسية لحزب المؤتمر الوطني الحاكم وهو بدوره يتحمل أخطاء قلة قليلة ومجموعة مصالح تحلّقت حول الرئيس البشير. ولعل عهد الحركة الإسلامية بالسلطة لم يبدأ بانقلاب البشير؛ فعندما تبنى الرئيس الأسبق جعفر نميري برنامجًا للإصلاح أسماه (النهج الإسلامي) صالحته أحزاب الجبهة الوطنية المعارضة ومن بينها الحركة الإسلامية وذلك في العام 1976م وكانت الحركة الإسلامية الأكثر تنظيما وتخطيطا من بين الأحزاب الأخرى لاستثمار المصالحة في التمكين لنفسها في أجهزة الحكم ومفاصل الاقتصاد.. التمكين الجزئي في عهد النميري مهد لاستيلاء الحركة على السلطة قبل 27 عامًا لكنها لا يبدو أنها استطاعت خلال هذه الفترة من تمكين المجتمع. أي أن يمتلك المجتمع المشروع الإسلامي فهمًا وتأصيلًا.. وبشكل أوضح تتمكن من تقوية البنية الاجتماعية في مواجهة الفقر. وتقول بعض النخب الإسلامية المغاضبة والتي اعتزلت المشاركة في الحكم، أن حكم الحركة الإسلامية تم اختطافه من قبل الرئيس البشير معه قلة من السياسيين والعسكريين أصحاب المصلحة الشخصية. بيد أن الإشكال ليس في استئثار البشير بالحكم لاحقا وطرد القيادات الإسلامية الفاعلة؛ بل الإشكال في طريقة الوصول للحكم من حيث المبدأ، ثم الفشل الذريع في صياغة برنامج حكم واقعي مرتبط فكريا بشعار "الإسلام هو الحل".الأخطاء الفادحة جعلت من يصفون أنفسهم بالإصلاحيين يقدمون قبل عدة سنوات ما عرف بمذكرة (الألف أخ)، وقد كانت نوعًا من أنواع التظاهر ضد الراهن السياسي..المذكرة تناولت انتقادات مؤلمة لمآلات الوضع السياسي في السودان، أهمها ما أسمته المذكرة (انحراف عن جادة الطريق) أو على ما يبدو لهم تخليًا عن الأهداف السامية التي من أجلها صعدت الحركة الإسلامية وجناحها السياسي (المؤتمر الوطني) لسدة الحكم في السودان.وكانت عضوة البرلمان سعاد الفاتح وهي قيادية مؤثرة في الحزب والحركة الإسلامية أطلقت صيحة كبرى قبل 4 سنوات حذرت حكومة البشير من انفجار الشعب وضياع نظام (الإنقاذ) إن لم تعجل الحكومة بانتشال الشعب ورفع المعاناة عن كاهله.وتجد تجربة حكم الإسلاميين في السودان اهتماما كبيرا من الباحثين والمراقبين، فهي الأطول حكما بين قوى ما يعرف بالإسلام السياسي، ممثلة في أحزابها وتنظيماتها المختلفة، التي طرحت نفسها كبديل باعتبار الإسلام نظاما سياسيا صالحا لكل زمان ومكان، ونموذجا قادرا على مواجهة التحديات الحضارية. وهذه الفترة الطويلة في الحكم التي لم تُتح لأي تنظيم أو حزب سياسي حكم السودان بُعيد استقلاله عن بريطانيا في يناير 1956. وشهدت البلاد في هذه الفترة انفصال الجنوب، وتفشي القبلية والعصبية الجهوية، وتدهورا اقتصاديا مريعا، فضلا عن عزلة دولية تطاول أمدها.ويرى قطاع مُقدّر من المنتقدين للتجربة السودانية، أن مشروع حكم الحركة الإسلامية في السودان قد انتهي إلى دكتاتورية قمعية، ودولة توسم بالفشل. ولعل من أكثر الانتقادات التي توجه لها أنها هيمنت على الحكم عبر انقلاب عسكري أطاح بنظام حكم ديمقراطي تعددي، كانت الحركة الإسلامية تمثل فيه دور المعارضة الرئيسة.