12 سبتمبر 2025
تسجيلتجاوزت نسبة كبيرة من الفضائيات كل الضوابط و المبادئ التي تحكم العمل الإعلامي النزيه و المسؤول. ولتبرير الركض وراء الربح السهل والسريع و الخروج عن الأخلاق والقيم يستعمل هؤلاء التجار أصحاب هذه الفضائيات مبرر "هذا ما يريده الجمهور" و "الجمهور عاوز كذا". و من الأساليب و الطرق التي تخدش الحياء و تهين كرامة الإنسان و إنسانيته، موضة تلفزيون الواقع، و أي واقع هذا الذي لا يحترم خصوصية الإنسان. كما انضمت إلى هذا النوع من الفضائيات، فضائيات تعالج المرضى على الهواء وتقدم وصفات طبية لأمراض عجز الطب و العلم لعقود من الزمن على معالجتها. و هنا نلاحظ الشعوذة على المباشر واستغلال الظروف الصعبة للمرضى و أهاليهم لسلب أموالهم من خلال تقديم وعود بالشفاء. وهي في حقيقة الأمر سراب يبقى يجري وراءه المريض الذي ضاقت به كل السبل. وهناك فصيلة أخرى من الفضائيات تخصصت في الشعوذة و السحر و قراءة الكف و الأوراق و غيرها من الطرق والسبل. وهكذا أصبح العراف والمشعوذ والطبيب الأخصائي، معالج السرطان وغيره من الأمراض المستعصية، وتلفزيون الواقع وبرامج الغزل وخدش الحياء على الهواء وبرامج المسابقات الوهمية أو برامج الرسائل القصيرة و غير ذلك جزءا لا يتجزأ من الفضاء الإعلامي العربي الذي أصبح ملوثا بكل المعايير والمقاييس. قبل سنوات خرج مسئولو عربسات عن صمتهم بعد ما تخطت بعض الفضائيات التي تبث على قمرهم الصناعي حدود اللباقة و الكياسة والايتيكت، حيث أظهرت درجة كبيرة من انعدام المسؤولية والمهنية و خدش الحياء وعدم احترام الجمهور بترويجها للشعوذة والسحر والسحرة والدجل وببثها رسائل إعلامية هابطة تتنافى مع الأخلاق و القيم، بإعلانهم عن اتخاذ تدابير صارمة لإيقاف مثل هذه الفضائيات، و إلغاء عقودها لخروجها عن إطار الرسالة الإعلامية الشريفة والهادفة. من جهتهم أعلن مسئولو القمر الصناعي "نايل سات" أنهم لا يستطيعون إلغاء عقد أي قناة فضائية دون وجود شكاوى صريحة ضدها من قبل الجمهور، و رصد مخالفات ارتكبتها القنوات. الأمر إذن، بحاجة إلى تجنيد كل الوسائل والإمكانات من طرف جهات عديدة في المجتمع لمعالجة هذه الظاهرة الخطيرة التي أصبحت تنتشر بسرعة كبيرة وتجد إقبالا كبيرا خاصة من قبل المراهقين والشباب وفئات أخرى يسيطر عليها اليأس وضاقت بها السبل بسبب الفقر والجهل والتهميش الاجتماعي. ما العمل و ما الحل؟ أمام هذا التلوث الخطير للفضاء الإعلامي الذي يساهم في تدمير العقول و تخريب البيوت و الجميع كله يتفرج و يشاهد و يبكي على الأطلال. المشكل مطروح على عدة مستويات. المستوى الأول يتعلق بالمسؤولين على الأقمار الصناعية و ضرورة اهتمامهم و مراقبتهم لما يبث في القنوات الفضائية المختلفة التي تبث من خلال أقمارهم. و العمل هنا هو وضع دفتر شروط واضح ومحدد المعالم حتى تكون الأمور واضحة خاصة تلك التي تتعلق بالجوانب الأخلاقية و الأدبية و تلك التي تتعلق باحترام المشاهد و عدم إغرائه بطرق تكون بعيدة كل البعد عن العمل الإعلامي الشريف. المستوى الثاني يتعلق بالمجتمع المدني الذي يجب أن يتصدى لمثل هذه القنوات التي تسمم الصغار كالكبار من خلال ما تقوم به من دجل وشعوذة و إباحية وما إلى ذلك. المجتمع المدني من خلال القنوات الرسمية و خاصة التشريعية و القانونية منها مطالب بمتابعة هذه الفضائيات حتى تمُنع من البث إذا استمرت في خروجها عن المبادئ و القيم الأخلاقية و المهنية التي يقوم عليها الإعلام. المستوى الثالث يتمثل في أصحاب المهنة. الصحفيون و مسؤولو المؤسسات الإعلامية والجمعيات والاتحادات والنقابات الصحفية من واجبها أن تكثف جهودها و تنسقها على المستوى الوطني ثم الإقليمي ثم الدولي لوضع حد لهذه المهازل التي تحدث على مستوى الإعلام الفضائي. أما المستوى الرابع فيتمثل في مسؤولي المدن الإعلامية الحرة التي يجب أن تضع ضوابط و قوانين لمحتوى رسائل ما يُقدم في الفضائيات التي تعمل في هذه المدن الإعلامية. فالمشكلة لا يجب أن يُنظر لها من جانب مادي و بمنطق الربح والخسارة. لأن البعض يرى ما دام أن القناة الفضائية تحقق ربحا و لها جمهور، هذا يعني أنها ناجحة وتقدم رسالة تخدم بها مشاهديها. منطق الربح في العمل الإعلامي يجب أن يُقترن بالقيمة التي تضيفها المؤسسة الإعلامية للذاكرة الجماعية و للفرد في المجتمع. أما إذا كان هناك ربح من خلال الوعود الكاذبة بالشفاء، وبخدش الحياء و الدجل و الشعوذة؛ فهذا الربح يضر المجتمع أكثر مما ينفعه. صحيح قد يخدم المصالح الضيقة لصاحب القناة؛ لكنه يبث سموما في أوساط الشباب والمجتمع ككل. تبقى القناة الفضائية، أيا ما كانت طبيعتها وخصوصيتها، مؤسسة تختلف عن كل المؤسسات الأخرى في المجتمع كونها صانعة فكر و رأي و علم و معرفة واكرة جماعية. فما تبثه المؤسسة الإعلامية هو منتجا فكريا يحمل قيما و مبادئ و أفكارا تصنع الرأي العام و الذاكرة الجماعية للمجتمع و تساهم في نهاية المطاف في تحديد سلوك البشر. خطورة التلوث الإعلامي الذي يميز الفضاء العام هذه الأيام لا تكمن في الجانب المادي بقدر ما هي خطر على عقول الناس وضمائرهم وطريقة تفكيرهم ونظرتهم للأمور ونسيج قيمهم. ما نلاحظه اليوم في الفضاء الإعلامي هو دجل و استغلال و احتيال على الهواء و الجميع يتفرج. فكيف يسكت الضمير الإنساني على طبيب يعالج مرض السرطان على الهواء و بمشعوذ يقرأ الغيب وينّجم وبتلفزيون الواقع الذي يقدم الحياة الخاصة لشباب و شابات على الهواء. فالسكوت على هذا التلوث الإعلامي الفضائي والذي هو في حقيقة الأمر تسميم و تحنيط عقول ملايين البشر هو المساهمة الجماعية في الخطأ و السكوت على أمر خطير يهدد المجتمع في أخلاقه و قيمه و مبادئه. الظاهرة تنتشر يوما بعد يوم ومثل هذه الفضائيات تتكاثر كالفطر، هذه الظاهرة لا تتوقف إذا لم تتحرك الجهات المعنية لإيقاف المشعوذين وتجار الأحلام والوعود الكاذبة والمتلاعبين بالمراهقين وبالشباب التائه الذي لم يجد من يضعه في الرواق السليم. إلى متى تبقى ظاهرة فضائيات الشعوذة و الإباحية تسيطر على الفضاء الإعلامي و تنتشر كالفطر؟ و إلى متى يبقى المجتمع بمختلف شرائحه و مكوناته يتفرج على ظاهرة خطيرة جدا. المسئولية كبيرة ومسؤولية الجميع، فبالنسبة للعرب والمسلمين هناك جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي ومنظمات وجمعيات المجتمع المدني واتحاد إذاعات الدول العربية وغيرها من المؤسسات التي يجب أن تباشر في حدود صلاحياتها و إمكاناتها باتخاذ الإجراءات اللازمة لوضع حد لهذه المهازل والتجاوزات ولهذه الفضائيات التي ترّوج لأفكار ولقيم وأعمال تتنافى جملة وتفصيلا مع الشريعة ومع النسيج القيمي والأخلاقي للمجتمع.