16 سبتمبر 2025

تسجيل

جدل تونسي حول تَوْنَسَة حركة النهضة

03 أكتوبر 2014

مع اقتراب موعد الانتخابات التشريعية التي ستجرى يوم 26 أكتوبر الجاري، تعيش تونس حراكاً متعدد الأبعاد، حيث تؤكد الانتخابات أن الصراع التنافسي الآن بين الأحزاب السياسية ليس صراعاً على البرامج، بقدر ما هو صراع على المشاريع المجتمعية، لاسيَّما أن الإسلام السياسي ـ متمثل في حركة النهضةـ أصبح عنصرا فاعلاً ورئيسياً في المشهد السياسي التونسي. وتزداد الضغوطات على حركة النهضة باتجاه التونسة، بعد الإخفاق الكبير في تجربة الحكم، وتنامي الإرهاب في معظم بلدان الربيع العربي، من هنا جاء الكتاب القيم الذي صدر حديثا في تونس، تحت عنوان "حركة النهضة بين الإخوان والتونسة"، ليسلط الضوء على هذا المخاض العسير، بل الصراع الداخلي الذي تشهده حركة النهضة بين المتغيرات في ممارستها السياسية داخل اللعبة الديمقراطية، وبين المحافظة على ثوابتها الأيديولوجية، وتمسكها بالمشروع الإسلامي الأولي لحركة الاتجاه الإسلامي، المعلن في يونيو 1981. عرفت تونس في الستينيات انقلابات اجتماعية عميقة، غيّرت - مع مرور السنوات– هياكل المجتمع التقليدي، ومع بداية السبعينيات عرف الاقتصاد التونسي انفتاحاً واسع النطاق على الخارج، وازدادت علاقات التبعية المالية والتجارية والصناعية للسوق الرأسمالية العالمية، والاحتكارات العالمية. وتدعمت أسس الرأسمالية التابعة، في نمط الاستهلاك والعيش، وفي تهافت الطلب على السلع الرأسمالية، وفي انتشار ظواهر الأنانية والربح السريع، واستغلال الفرص واللصوصية، مما أدى إلى انحطاط القيم الأخلاقية الموروثة من المجتمع القديم، التي كنستها أيديولوجية البرجوازية الكمبرادورية. وفضلاً عن ذلك، فقد ترسخت خيارات النظام القائمة على التبعية المطلقة إزاء القوى الإمبريالية، وبناء الاقتصاد التصديري الذي يلبي حاجيات السوق الرأسمالية العالمية، وتدمير الزراعة في الريف بعد إخفاق عصرنتها، وتنامي الثروات الفاحشة بسرعة مذهلة عند بعض الفئات الاجتماعية، وتزايد الفقر والعوز الاقتصادي لدى الطبقات الشعبية، وتفاقم تعقيدات الحياة المدنية، وهجرة أبناء الريف إلى المدينة مشكلين بذلك أحزمة الفقر. أدّت العوامل مجتمعة هذه إلى تفاقم التبعية والتخلف، وولّدت أزمة القيم بكليتها وشموليتها على صعيد المجتمع التونسي، في ظل طغيان نموذج "الحداثة المستلبة" التي قادتها البرجوازية التابعة في بناء نموذجها الدولتي. ثم إن الرأسمالية التابعة الاستهلاكية، أدت إلى تعميق الفوارق بين الطبقات الاجتماعية، وإلى توسيع الهوة بين المدينة والريف، وإلى اختلال هائل في مسيرة"التنمية" غير المتكافئة، في تمركزها وشموليتها الاقتصادية الاستثمارية والاجتماعية، والثقافية، والترفيهية بين المناطق الساحلية وداخل البلاد. وهذا ما أدى إلى اشتداد التناقضات الطبقية بعمقها الاجتماعي. وشكلت الأسباب الرئيسية هذه القاعدة الأساسية لنشوء الحركة الإسلامية في تونس، التي تشكلت تحديداً في العام 1970، تاريخ تأسيس مجلة"المعرفة" الإسلامية الشهرية، التي تحلقت حولها أبرز العناصر الإسلامية (الشيخ راشد الغنوشي، وعبد الفتاح مورو) الرافضة للعمل من داخل جهاز الدولة. ويعود الفضل في محاولة الإنعاش هذه إلى الشيخ أحمد بن ميلاد سنة 1965، لكن الديناميكية الجديدة التي مهدت لانبعاث الحركة الإسلامية التونسية لم تبدأ فعلياً إلا عندما تجمعت نواة أولى، وتعهدت بالعمل "لنشر الإسلام" متأثرة خاصة بأدبيات البنا وقطب والمودودي، مع انضباط مرجعه عمل جماعي، وفقه للدعوة، وبيعة للأكبر سنا ومكانة، مستفيدة من دعم رجل زيتوني هو الشيخ محمد صالح النيفر الذي فضل الهجرة إلى الجزائر على أن يبقى صامتاً بعد خيبة أمل دينية في شخصية بورقيبة، ومعتمدة على مجلة رجل لا يقل صموداً (عبد القادر سلامة) وضع صحيفته تحت تصرف الجماعة لتعكس ثقافتها الأولى، وتصبح شهادة ميلاد ووثيقة رئيسية تحدد ملامح الكيان الجديد. كان الموقف الرافض للمشروع التحديثي للدولة التونسية، وراء ظهور الحركة الإسلامية التونسية، «وهو – أي الموقف الرافض- المضمون الأساسي لمشروعية وجودها والمحدد لقاعدتها الاجتماعية التي أصبحت بها السبعينيات وأواخرها يحسب لها حساب بالمعنى السياسي. وبناء عليه فإن التفريط في موقف العداء الخالص والشامل لمشروع الدولة الوطنية الحديثة وللنخب المدافعة عنه، ليس أمراً بديهياً باعتبار أنه يمس بقوة عوامل ظهور الحركة والأسباب الاجتماعية التي ساعدت على بروزها في ذلك الظرف التاريخي دون غيره وأيضاً بتبني بديل المشروع الإسلامي في التغيير الثقافي والاجتماعي دون سواه، هذا ما عبرت عنه الدكتورة آمال موسى في كتابها الجديد المشترك مع الدكتور عبد القادر الزغل، عن «حركة النهضة بين الإخوان والتونسة» الصادر حديثا بتونس. الحركة الإسلامية في تونس هي ملتقى لتيار واسع من الألوان الفكرية والمنازع السياسية والأمزجة المتعددة ضمن منظور أصولي إسلامي. وكانت النواة المؤسسة والمبادرة للعمل الإسلامي بتونس مؤلفة من الشيخ راشد الغنوشي الذي لم يكن تكوينه الإسلامي ذا اتجاه واحد، وإنما كان تمازجاً بين مجموعة من الاتجاهات مع مجيء الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي إلى سدة الرئاسة في عام 1987، وإقراره سياسة التعددية الحزبية المسيطر عليها في عام 1988، نجد أن الأمين العام لـحركة النهضة الشيخ راشد الغنوشي يقول في عام 1989 إنه «لا يمكن تصور مجتمع إسلامي وعلماني معاً إلا إذا تخلى عما هو أساسي في الإسلام. لا يكون المجتمع إسلامياً إلا إذا كان غير علماني ». ويزيد من إرباك المشهد السياسي التونسي، الخطاب المزدوج الذي يقدمه قادة الحركة الإسلامية مع إنجاز الثورة التونسية، واعتلاء حركة النهضة السلطة عقب انتخابات المجلس التأسيسي في 23 أكتوبر 2011، وتشكيلها حكومة الترويكا وقيادتها لها، مع حزبين علمانيين صغيرين، هما: حزب المؤتمر بزعامة الدكتور المنصف المرزوقي، وحزب التكتل الديمقراطي بزعامة الدكتور مصطفى بن جعفر. من يتابع الصراع الدائر في تونس منذ أكثر من ثلاث سنوات وليومنا هذا، يلمس بوضوح أن الصراع ليس على برامج سياسية بين حركة النهضة وبقية الأحزاب الديمقراطية المؤمنة ببناء دولة ديمقراطية تعددية، بل هو في حقيقة الأمر صراع على المشروع المجتمعي لتونس خلال المرحلة المقبلة، والذي لم يحسم بعد. فلا يمكن أن تتعايش مرجعية فكرية وسياسية ديمقراطية تؤسس لدولة القانون، لدولة مدنية تعددية، تقوم على مبدأ سيادة الشعب، وعلوية القانون، والإرادة الشعبية،مع مرجعية حركة النهضة التي لا تزال ترفض تجسيد القطيعة الإيبستيمولوجية مع حركة الإخوان المسلمين، التي تؤسس موضوعيا لدولة دينية تقوم بالتدرج.