16 سبتمبر 2025

تسجيل

أفراح "الربيع العربي" وأحزانه

03 أكتوبر 2011

ظل الطابع المفاجئ لاندلاع الانتفاضات العربية مسيطراً على الأذهان. كثيرون شرحوا في مجرى الأحداث أن الحاصل كان متوقعاً وضرورياً، ولأنه حصل غالباً من دون مقدمات مباشرة ومتراكمة تؤدي إليه، فإنه يبدو الآن كأنه جاء في غفلة من الزمن، ومع مرور الوقت صار البعض يقول إن الحاصل طبيعي، وأنه كان من الخطأ الاعتقاد أن الشعوب "ماتت" أو على الأقل لم تعد لديها الإرادة ولا القدرة على التغيير. فضحت الانتفاضات ضحالة الثقافة السياسية، بل أن النخبة التي كانت تعتبر – أو هي تعتبر نفسها – مسؤولة عن حال تلك الثقافة أذهلتها أن يبدي الشارع هذا المقدار من الوعي والجرأة والتصميم، وأن يكون لديه حس مرهف بأهمية أن يبقى تحركه سلمياً مهما بلغت الصعوبات. إذ ليس أمراً عادياً أن يتشكل إصرار جماعي على هذا النحو، بحيث ان رب العائلة الذي كان يكافح لتأمين احتياجات أولاده مدركاً أنهم رغم كل كدّه يعيشون في حرمان وإذا به ينسى كل شيء ويخرج إلى التظاهر مع علمه بأنه قد يعود – وربما لا يعود – إلى بيته جثة هامدة. كان الدرس "السلمي"، الذي كلف بضع مئات من القتلى والجرحى في تونس ومصر، أفهم حكام ليبيا واليمن وسوريا أن "خطأ" ما قاد الرئيسين المصري والتونسي إلى التنحي، لذلك لم يقم الثلاثة أي اعتبار للطابع السلمي، ولا للمطالب أو الشعارات، ولا للاعتصامات، والتظاهرات، اعتقدوا أن معادلة النار هي التي ستنقذهم، وطالما أن ميزان القوى لمصلحتهم فلابد أنهم سيتجاوزون المحنة ويبقون في عروشهم، لكن الانتفاضات ما لبثت أن فضحت أيضاً هشاشة ثقافة الوطنية، فهذه تعني للحاكم الأوحد انه طالما بقي في كرسيه من دون أي إزعاجات فإن الوطنية بخير، حتى لو قتل الآلاف، وبدل أن تؤخذ سلمية الاحتجاجات على أنها عامل حاسم في رسم قواعد اللعبة، فقد وظفها الحكام لترهيب المحتجين واستدراجهم شيئاً فشيئاً إلى التخلي عن سلميتهم ليعود الوضع إلى طبيعته، أي منازلة بين البندقية والصدور العارية. سواء في الانتفاضات التي حسمت بإسقاط النظام، أو في تلك التي لم تتوصل إلى تحقيق هدفها بعد، انفضحت أيضا العلاقة بين النظام والخارج، أي دور القوى الدولية في تعزيز استئثار الحاكم بالدولة والبلد والشعب. إذ وجدت هذه العلاقة أنها أصبحت فجأة على المحك، وكان عليها أن تحسم أمرها، ولم يكن ذلك سهلاً عليها. وقد شهد الجميع في ليبيا، ورغم التدخل الدولي الفاعل، إن ثمة تردداً خارجياً استمر حتى لحظة دخول مقاتلي الثوار طرابلس العاصمة. ذاك أن القذافي استطاع طوال أربعين عاماً أن يقدم كل الامكانات المدنية والعسكرية لتهديد سلطته. وفي الأعوام الأخيرة كان همه الوحيد أن يسير نظامه بحزام من المصالح مع القوى الدولية ليعدم أيضا أي احتمال خطر قد يأتي من الخارج، ولاشك أن هذه المصالح والمغريات هي التي سيطرت على مواقف تلك الدول الحائرة بين إبقائه وإطاحته، والباحثة في أسوأ الأحوال عن حلول وسط، ومع كل مسعى خارجي للقذافي كان الثوار يخشون أن يفلح في إقناع الدول المؤثرة فتبدأ بالضغط عليهم ليذهبوا إلى "حل تفاوضي"، ولو فعلت لكانت ربما أحرجتهم، لكن ما منعها أن القذافي نفسه لم يكن باحثا عن حل وسط وإنما عن استمرار نظامه لقاء تأمين المصالح التي يعد بها الدول الراغبة في مساعدته. أما في اليمن فنجح النظام في الإيحاء بأن لديه شارعاً يدعمه ويدافع عنه بمواجهة الشارع الذي يدعو إلى إسقاطه، ثمة خدعة في هذا الإيحاء، فالشارع المعارض ينطلق بدفع ذاتي، أما الشارع الموالي فيتحرك ويحشد بفضل التسهيلات التي يوفرها النظام نفسه، فإذا تراجعت العطاءات والتسهيلات يتقلص الحشد وتضمر الموالاة. ومن الواضح الآن أن ما يطيل عمر النظام هو التعاقدات الأمنية والاستثمارات العسكرية التي جعلت الولايات المتحدة ترتبط به لقاء القضاء على تنظيم "القاعدة"، أي أن الطرفين مرتبطان بمصلحة محددة لكن كلا منهما يعالجها على طريقته، ومن شأن النظام أن يدعم المعركة مع "القاعدة" إلى ما لا نهاية باعتبار أن وجودها في الأراضي اليمنية هو ما يربطه بالأمريكيين، ومن شأن هؤلاء أن يحافظوا على النظام أطول فترة ممكنة باعتباره وسيلتهم في الحرب على "القاعدة". لذلك فإن كل بيانات البيت الأبيض عن "نقل السلطة"، أو "التزام المبادرة الخليجية" هي مجرد مواقف للاستهلاك الإعلامي، وإذ يحاول الأمريكيون إدخال بعض التغيير لإيجاد خطوات متوازية بين "حل سياسي" وهجمات على مواقع "القاعدة" فإنهم يصطدمون بحقيقة أن علي عبدالله صالح لا يكف عن المراوغة، فـ"الحل" عنده أن يترك ليضع خلافته بنفسه وأن يضمن بقاء "جيوشه" كافة بإمرة نجله وأولاد أخيه. كان القذافي الأسرع إلى الشروع في حملة عسكرية من شأنها أن تقوده إلى إبادة عدد من مدن الشرق الليبي من دون أن يرف له جفن، لكنه استفز الخارج إلى حد التدخل، وهو هذا التدخل الذي قدم مساهمة كبيرة في إسقاط نظامه، ومع ذلك فهو لا يزال يراهن على الزمن، فمن أي موقع يستطيع أن يستقر فيه سيواصل زعزعة استقرار ليبيا ونظامها الذي سيستغرق وقتاً قبل أن يتشكل. التقطت سوريا هذا الدرس فاختارت القمع الدموي المقسط، وتحصن النظام خلف أسوار علاقاته الخارجية ليحتمي من "مؤامرة" مزعومة، وإذ تسهر روسيا على تدعيم تلك الأسوار، مدفوعة بخسائرها في ليبيا، فإنها تصطدم بدورها بواقع أن النظام بات عاجزاً عن إنفاذ أي من الحلين، الأمني أو السياسي، وأن الوضع الاقتصادي للبلاد انكشف، حتى أن أصدقاء النظام أنفسهم لم يعودوا واثقين بأن أي دعم يقدمونه سيكون مجدياً ولا شك أن استمرار الحال كما هي الآن، لابد أن يفضي إلى أحد أمرين أو كليهما معاً، انزلاق البلاد إلى حرب أهلية، أو تفكك الدولة بسبب طول الأزمة وعدم قدرتها على الحسم أمنيا أو على تقديم تنازلات سياسية جوهرية للجم الشارع. والمذهل أن النظام اهتم خلال الشهور الماضية بـتأمين "شبكة أمان" تمنع أي تدخل عسكري خارجي، أكثر مما اهتم بإيجاد مشروع إصلاحي ذي صدقية يمكن أن يقنع الداخل، واقعياً لم تلمس روسيا أو أي دولة أخرى، أن هناك رغبة حقيقية بالتدخل،أما العقوبات الأمريكية والأوروبية فيعرف أصحابها أنها تفرض من قبيل الضغط وليست كافية لإطاحة النظام. في المقابل، استشف بعض زوار دمشق أنها متلهفة لمعاودة ممارسة دورها الإقليمي، كونه المؤشر الوحيد إلى أن النظام تجاوز الأزمة، إلا أنهم لم يبدوا مقتنعين بأنه بلغ فعلا الدرجة المطلوبة من الاستقرار الداخلي التي تسمح له بذلك. رغم الآمال العريضة التي أشاعها "الربيع العربي"، إلا أن الأنظمة المستبدة الفاسدة استطاعت أن تبدو أشد شراً مما كان متصوراً، وبمقدار ما تبين أن المراحل الانتقالية، حتى في حال الإطاحة السلمية بالأنظمة، صعبة ومعقدة بمقدار ما أنها في حال السقوط الدموي للأنظمة ستكون بدورها بداية لصراعات متشعبة يزيد من خطورتها الفهم المتصاعد للتيارات الدينية للسيطرة على السلطة، الأكيد أن المراحل الانتقالية ستطول وتتعاقب إلى أن تسود القناعة بأن "الدولة المدنية" تتسع للجميع ولا تتسع لمن يريد أن يفرض أيديولوجية معينة على المجتمع.