17 سبتمبر 2025
تسجيل(1) لا أتذكر كم كان عمري حينها؛ فقد وُلدت قبل زمن طويل، ربما ألف عام أو أكثر، لكن أتذكر أن ذلك ما وقع في اليوم الثامن والعشرين من الشهر السادس لعام 1914. (2) هنا في سراييفو جسر جميل، بناه العثمانيون عام 1541، حين كانوا في البوسنة والهرسك لحوالي 500 عام، يعتلي الجسر نهر ميلياتسكا، الذي يمر عادة بهدوء من شرق المدينة إلى غربها، لكنه لما ثار مرة عند الفيضان أصاب الجسر بأضرار بالغة، فتم ترميمه، ثم أعيد بناؤه كجسر حجري ليعرف باسم "الجسر اللاتيني". هناك في صربيا المجاورة "حركة اليد السوداء" التي تأسست عام 1911 كتنظيم سري، يهدف إلى توحيد الدول التي يعيش فيها الصرب بما فيها البوسنة والهرسك، وهي لذلك تحارب إمبراطورية النمسا والمجر التي تسيطر على البوسنة والهرسك منذ عام 1878. ستة من أعضاء هذه الحركة أراهم يتمركزون الآن فوق إحدى البنايات في شارع أبيل كويي، ذاك الشارع الضيِّق الممتد على طول الضفة الشمالية للنهر، في انتظار موكب ولي عهد النمسا الأرشيدوق فرانز فرديناند وزوجته، اللذين يزوران المدينة الجميلة. يصل الموكب بالفعل، فيحاول اثنان من الحركة الاقتراب من الأرشيدوق وإطلاق النار عليه، لكن وجود بعض ضبَّاط التأمين دفعهم للتراجع، فاضطر أحدهما إلى إلقاء قنبلة على الموكب، لكنها تنفجر بعيدًا عن سيارة ولي عهد النمسا، ويُلقى الجمهور الغاضب القبض على الجاني، ويوسعونه ضربًا. (3) تلجم المفاجأة الجميع، لكن ولي العهد يُصرُّ على زيارة مصابي الحادثة في مشفاهم، وما أن تتم الزيارة حتى يتحرك الموكب لاستكمال البرنامج المعد، لكن ولسوء التنظيم والتنسيق، فإن أحدا لم يبلغ سائق سيارة ولي العهد وزوجته بالمسار المعدل للجولة، فيستكمل السير عبر المسار الأصلي. إلى أن يكتشف الأمر فيحاول العودة إلى الخلف وتغيير المسار، وخلال المحاولة وعند الجهة الشمالية من الجسر، يتربص عضو صربي من الحركة، يدعى "غافريلو برينسيب" فيطلق رصاصة في حلق الأرشيدوق، ويقَتل زوجته برصاصة في بطنها، فيعم الهرج والمرج، لقد قتل ولي العهد النمساوي وزوجته. (4) يتضح كل شيء، ويندلع كل شيء. تعلن النمسا الحرب على صربيا، تتدخل روسيا لتنقذ حليفتها الصربية، فتهرع ألمانيا إلى مساعدة شقيقتها الصغرى النمسا، فتقرر فرنسا التعبئة العامة ضد ألمانيا، ومن ثم تعلنها حربًا عليها، وتجتاح بلجيكا كمعبر للأراضي الفرنسية، فتضطر بريطانيا لإعلان الحرب على ألمانيا دفاعًا عن بلجيكا. وهكذا -أيها السيدات والسادة- تبدأ في التاسع من الشهر السابع لعام 1914 حرب الكل ضد الكل، أو ما عُرف حينها بـالحرب التي ستُنهي كل الحروب، والحقيقة أنها لم تكن سوى الحرب العالمية الأولى، التي بنهايتها تتغير خارطة العالم. فتختفي إمبراطوريات وأسر حاكمة، وتظهر دول وقوى اجتماعية وسياسية جديدة، وفيها يَفقد حوالي عشرة ملايين عسكري حياتهم، وعدد مماثل من المدنيين، فضلاً عن خمسين مليون شخص ماتوا بسبب الإنفلونزا الإسبانية التي ساهم في انتشارها حركة الجنود في العالم. (5) أما الجاني "غافريلو برينسيب" فتصل تفاصيل حياته، فقد ولد في قرية فقيرة بين تسعة أطفال، خمسة أولاد وأربع بنات، توفي منهم ستة في طفولتهم، كان عضوًا في مجموعة معروفة باسم "الاتحاد أو الموت"، وهي مجموعة منبثقة من مجموعة أخرى تسمى "البوسنة الشابة"، وهي حركة ثورية نشطت قبل الحرب العالمية الأولى، أغلب أعضائها صرب، وكانت تعمل من أجل استقلال الشعوب السلافية الجنوبية من الحكم المجري النمساوي. طلب برينسيب الالتحاق بحركة اليد السوداء، ولكن عضويته رُفضت لِقِصَر قامته، فقرر الالتحاق بمجموعة أخرى فرَفضت لنفس السبب. فقيل إن هذا الرفض الذي قوبل به هو الذي كان وراء إرادته القيام بعملية شجاعة استثنائية؛ لكي يُثبت لهم أنه ليس أقل منهم قوة. لم يُعدم بعد اقترافه لتلك العملية؛ لأنه كان يعد بأعوامه التسع عشر قاصرًا (6) أما البوسنة فقد دفعت أثمانًا ضخمة بسبب الحرب العالمية الأولى، التي اندلعت بعد 37 يومًا فقط من واقعة اغتيال ولي العهد النمساوي؛ فقد فرضت السلطات العسكرية أحكامًا عرفية على كافة المدن البوسنية، تسببت في حالة واسعة من الشلل على كافة النطاقات، وفرضت كذلك قوانين التجنيد الإجباري؛ لدعم قوتها العسكرية خلال الحرب. من ناحية أخرى كانت الأزمة الاقتصادية تضرب البلاد بقوة؛ فقد وُجِّه معظم الإنتاج الزراعي لخدمة المجهود الحربي، وضَربت البطالة نطاقات واسعة من المواطنين، مما جعل الحياة خلال فترة الحرب أكثر قسوة بجانب فقدان الكثيرين حياتهم بسبب مشاركتهم الإجبارية في الحرب التي تشير التقديرات إلى مشاركة 150 ألف بوسني فيها. كانت الأزمة الاقتصادية العنيفة والأوضاع السياسية المضطربة دافعة الكثيرين للهجرة من البوسنة خلال تلك السنوات الصعبة، فرحل الكثير منهم إلى ألمانيا وعدة دول أوروبية؛ بحثًا عن ظروف اقتصادية وحياتية أفضل. (7) هل كان يظن هذا الشاب الصربي الذي اغتال ولي العهد النمساوي أن ذلك كله سيقع في بلاده، وفي العالم كله، بسبب جريمته، أم أن الأمر كان مُعدًّا في كل حال، في انتظار حدث مناسب، أهداهم إليه هذا الشاب الصربي؟!