12 سبتمبر 2025

تسجيل

الغدر بعد الصلح

03 يوليو 2014

لا يزال الغدر قائما برأسه عند النفس الدنيئة التي لا تراعي ذمة ولا تحفظ عهدا، ولا تخاف خالقا ولا ترحم مخلوقا، ومشاهد الغدر والخيانة تتجدد بين البشر، لتميز الخبيث من الطيب، ولتبلى أخبار الناس، فالغادر والخائن كاذب لا يظهر إلا في مواطن الفتن والشدائد، تلك المواطن التي يعلم فيها الصادق من الكاذب والخائن من الأمين، ومن كان يعطي من طرف اللسان حلاوة ويروغ منك كما يروغ الثعلب، ومن كان يبذل لك الود صافيا، والنصيحة مخلصا، (وليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين) وكان العرب في الجاهلية يتعاقدون في المحالفات على الدم والرب والماء الطيب، ويتمسحون بالكعبة، يريدون توكيد الحلف ومصاحبته بعمل مادي يذكر بالوفاء، وكان الغدر معرة يتجافون عنه، وإذا ما غدر أحدهم رفعوا له لواء بسوق عكاظ ليشهروا به، ويوقدون له بالموسم ناراً وينادون عليه يقولون: ألا إن فلاناً غدر. وكان هذا التشهير رادعا للخيانة، حيث تظل غدرته تلوكها الألسنة، ويسجلها الشعراء، فتتناقلها أجيال، ويظل أصحابها في عار الغدر الذي يصعب محوه من الذاكرة، ومن ثم نرى أوس بن محصن يسأل سمية عن تاريخ قومه في الوفاء والعفة سؤال استنكار للغدر وتحقير له فيقول: أَسُمَّيَ وَيْحَكَ هل سمعتِ بِغَدْرَةٍ رُفع اللِّوَاءُ لنَا بِها في مَجمعِ إِنَّا نَعِفُّ فلا نُرِيبُ حَلِيفَنَا ونكُفُّ شُحَّ نُفوسِنا في المَطْمَعِ وكان العربي في الجاهلية يعف عن المال مقابل الخيانة، فلا يشتري بذمته مالا يجلب عليه العار، يقول حاتم الطائي: ولا أَشْتَرِي مالاً بَغَدْرٍ عَلِمْتُهُ ألا كُلُّ مالٍ خَالَطَ الغَدْرَ أَنْكَدُ وتسجل لنا كتب الأدب نماذج من الذين غدروا بعد أن تصالحوا، ونسوق منهم مثالين: الأول أن بني مفروق بن عمرو بن محارب وبنو جهم بن مرة بن محارب تلاحوا وتشاجروا على ماء لهم، فتفوق بنو مفروق عليهم، وكان في بني جهم شيخ له تجربة وسن، فلما رأى ظهورهم، وأن هزيمة بني جهم صارت وشيكة، قال: يا بني مفروق، نحن بنو أب واحد فلم نتفانى؟ هلموا إلى الصلح ولكم عهد الله وذمة آبائنا أن لا نهيجكم أبداً، ولا نزاحمكم في هذا الماء، فأجابتهم بنو مفروق إلى ذلك، فلما اطمأنوا ووضعوا السلاح عدا عليهم بنو جهم، فنالوا منهم منالاً عظيماً، وقتلوا جماعة من أشرافهم، وفي حماسة البحتري نقرأ توثيقا لهذا المشهد عند أبي بن ظفر المحاربي الذي يقول: هلا غدرتم بمفروق وأسرته والبيض مصلتة والحرب تستعر لما اطمأنوا وشاموا من سيوفهم ثرتم إليهم وغب الغدر مشتهر غررتموهم بأيمان موكدة والورد من بعده للغادر الصدر أما المثال الثاني فنجده عند عمرو بن هند الذي غدر بعد الصلح، وكان السبب في هذا الغدر رفيق السوء حتى حدثت الحرب التي سميت بيوم أوارة وفيها أن عمرو بن المنذر بن ماء السماء قد عاقد هذا الحي من طيئ على ألا ينازعوا ولا يفاخروا ولا يغزوا، وأن عمرو بن هند غزا اليمامة، فرجع منفضا فمر بطيئ فقال له زرارة بن عدس بن زيد بن عبد الله بن دارم الحنظلي: أبيت اللعن أصب من هذا الحي شيئا، قال له ويلك: إن لهم عقدا، قال: وإن كان، فلم يزل به حتى أصاب نسوة وأذوادا. والسلام على من وعد فوفى وقال فصدق، وتصالح فتصافى وغسل بماء التصافي مرارت التجافي، وإلى لقاء آخر إن شاء الله.