13 سبتمبر 2025
تسجيلمن المعوقات الرئيسة التي تقف في وجه تطور الديمقراطية الناشئة في تونس، وبالتالي في وجه التغيير المنشود الراديكالي الذي كان شعارًا وزيا للثورة التونسية لكي تحقق أهدافها الإستراتيجية، هي ظاهرة الفساد التي تنخر في المؤسسات الإدارية والاقتصادية والاجتماعية التونسية، وضربت مقومات الدولة ومرافقها، وعوّقت ولا تزال حركة التغيير وإعادة بناء الدولة الوطنية على أسس ديمقراطية سليمة. لقد أضحت ظاهرة الفساد الإداري والمالي منتشرة بصورة واسعة عميقة في عهد حكم الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي وعائلته وأصهاره، الذي ورّط أجهزة الدولة في الفساد، لكن هذه الظاهرة اتخذت أبعادًا واسعة في زمن الثورة، حيث اغتنمت لوبيات الفساد المالي والتهريب، والتهرب الجبائي، فرصة هشاشة الأوضاع وضعف أجهزة الدولة، وكذلك ترنح المسار الثوري، وعدم احترام القانون، أي مع عدم وجود دولة قانون، لتؤسس ما سمي بـ«الدولة الخفية» الفاسدة المتناقضة مع الشرعية، وهي منظومة يصعب تفكيكها، من دون إعادة الاعتبار لبناء الدولة الوطنية الديمقراطية التعددية، دولة الحق والقانون، واستقلال المؤسسة القضائية. واليوم وفي ظل الحكومة المنتخبة منذ نهاية سنة 2014، والتي تنادي بسياسات الانفتاح الاقتصادي في نطاق الارتباط بنظام العولمة الليبرالية، القائمة على تصاعد حرية حركة الأموال ونشاط غسيل الأموال والجريمة المنظمة وتشديد الرقابة على الحدود الدولية لمنع الهجرة وما إلى ذلك، ينتشر الفساد المالي والإداري بجميع أشكاله في جميع مفاصل الدولة والمجتمع، في ظل غياب تطبيق الديمقراطية، إن لم نقل غيابها، وهذا ما تجلى في الانتخابات الأخيرة التي سيطر عليها المال السياسي، بحيث لم تؤمن تمثيلا ً صحيحًا لشتى فئات الشعب التونسي، بما يُخرِجُ مجلسًا نيابيًا يمثل مصالح الإرادة الشعبية، وتطلعات الشعب التونسي، وأمانيه في تحقيق الأهداف الإستراتيجية لثورته، التي ربطت بين أمرين: لا يمكن القضاء على الفساد من دون القضاء على الاستبداد، لأنهما متلازمان. ظاهرة الفساد منذ أن تشكلت الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد بقيادة الأستاذ شوقي الطبيب، تحولت إلى قضية رأي عام، لاسيَّما في ظل التشكيك المتنامي في مصداقية مجلس النواب للاضطلاع بدوره المطلوب منه على مستوى التشريع أو على مستوى الرقابة على أعمال الحكومة الحالية، التي باتت عاجزة عن محاربة ظاهرة الفساد، لأنها لا تسهر على مصالح المواطنين، ولا تهتم بمتطلباتهم وحاجاتهم، بل تسخر الحكم لمصالح الطبقة الرأسمالية الطفيلية، وأصحاب رجال الأعمال الفاسدين، الذين عادوا من جديد بعد انتخابات خريف 2014، لكي يسيطروا على أجهزة الدولة والإعلام العمومي والخاص. وتتفاقم ظاهرة الفساد أكثر، عندما لا تمارس السلطة الثالثة، أي السلطة القضائية دورها في إحقاق الحق، وفي حماية حقوق الشعب التونسي، وهذا ما يجعل للفساد تأثيرا مدمرا على حكم القانون ولاسيَّما إذا ما طال القضاء. تكاثرت في الآونة الأخيرة البحوث في الفساد ولاسيَّما من قبل خبراء الاقتصاد والقانون وعلم الاجتماع، فتركزت بحوث الاقتصاديين في معظمها على العلاقة بين الاستثمار والتنمية الاقتصادية من جهة ونوعية المؤسسات الحكومية من جهة أخرى، ونستنتج أن ضعف المؤسسات العامة الذي هو أحد أهم أسباب الفساد يؤدي إلى انخفاض في الاستثمار، وبالتالي إلى إبطاء عجلة التنمية الاقتصادية. فالتنمية المستدامة مقترنة بتوافر الديمقراطية، بوصفها وسيلة لردع الفاسدين، وباعتبارها تعبر عن مشاركة فعلية في الحكم للشرائح الشعبية كافة في المجتمع. وهذا ما ليس قائمًا في تونس. هناك 89 في المائة من التونسيين حسب إحصاء جمعية المراقبين العموميين، يرون أن استشراء ظاهرة الفساد والرشوة راجع إلى «غياب الإرادة السياسية» من جانب مؤسسات الدولة التونسية المنتخبة في محاربة الفساد، الذي تحول إلى «ثقافة» منتشرة وأسلوب تعامل عادي وطريقة لتسهيل الإجراءات الإدارية في تونس. وهذا ما يؤكده المسح السنوي حول مناخ الأعمال وتنافسية المؤسسة الصادر في 23 فبراير 2016 عن المعهد التونسي للقدرة التنافسية والدراسات الكمية، والذي غطى 1200 مؤسسة خاصة من كامل تونس، أن ثلث المؤسسات أصبحت مجبرة على دفع رشاوي إلى الإدارة التونسية لتسهيل التواصل والخدمات، وأن 32 في المائة من هذه المؤسسات تعتقد أن الجمارق التونسية تعتبر من أكثر الإدارات التونسية فسادًا، وهي أرقام مفزعة تعكس حجم تغلغل ظاهرة الرشوة والتجاوزات المالية في صلب الإدارة التونسية. ويشكل التهرب الضريبي في انخفاض الإيرادات العامة للدولة التونسية، وثمة عوامل قائمة أدت إلى توسيع درجة اختراق الفساد للنظام الضريبي وتعميقه. فتونس لا تتمتع بمصادر «ريعية» متمثلة في عوائد صادرات النفط والغاز، وكذلك مواد أولية ومعدنية أخرى غالبا، لهذا السبب تصبح الضرائب تشكل أهم مصدر تمويل ميزانياتها العامة. نزيف من المداخيل الخيالية تُحْرَمُ منها الدولة وتُؤَثِرُ بشكل بالغ في مجهود التنمية وتُؤَخِرُ عجلة النمو. وعوضا عن البحث عن حلول هيكلية معمقة لوقف التهرب الضريبي وتحقيق العدالة الجبائية المنشودة..لم تجد الحكومات المتعاقبة بعد الثورة من حرج لتمويل الميزانية السنوية للدولة في مزيد الضغط على الأجراء وأصحاب الدخل الضعيف والمتوسط من خلال الترفيع في نسبة الأداء على الدخل أو تنويع الأداءات والضرائب على الأفراد..ورغم وعود رئيس الحكومة الحبيب الصيد بوضع خطة لمقاومة التهرب الجبائي والقيام بإصلاحات تشريعية وقانونية لإصلاح الجباية المحلية، فإنه لا توجد لحد الآن أي بوادر عمليّة من أجل محاربة التهرب الضريبي وإرساء منظومة جديدة تضمن العدالة الجبائية.