19 سبتمبر 2025
تسجيلشكلت سنة 1975 مفترقا كبيرا في التاريخ اللبناني الحديث ليس فقط في السياسة , وإنما في الاقتصاد والمال والاجتماع خاصة. قبل سنة 1975 كان الاقتصاد اللبناني يعتمد على النظام الحر "التقليدي" كاستثناء في منطقة عربية اعتمدت النماذج الاشتراكية في معظمها وأن يكون بأشكال مختلفة. كان لبنان "سويسرا الشرق الأوسط" وبيروت سميت باريس الشرق، وكان النمو قويا والتضخم ضعيفا. اعتمدت سياسات اقتصادية هدفت إلى تعزيز القطاع المصرفي والمالي عبر قانون النقد والتسليف الذي حمى سرية الودائع وأسهم في جذب الأموال العربية إلى لبنان. نجحت السياسات الليبرالية اقتصاديا لكنها فشلت اجتماعيا، إذ أنتجت سوء عدالة خطيرة من ناحيتي الدخل والثروة. شكلت هذه الفوارق الاجتماعية الكبيرة الأسس التي بنيت عليها النزاعات السياسية التي أصبحت أمنية فيما بعد. بين سنتي 1960 و1970، نما الاقتصاد اللبناني عبر الناتج المحلي الفردي بمعدل سنوي قدره 5% ولم يصل مؤشر التضخم إلى أعلى من 1.5%. في مؤشرات المؤسسات الدولية، وضع لبنان في أعلى مستويات الدخل الفردي لمجموعة الدول ذات الدخل المتوسط أي مباشرة قبل مجموعة الدول الصناعية. هذه نتائج ممتازة ليس فقط بالمعايير العربية وإنما أيضا دوليا. نمت الزراعة سنويا ب 6.3% وكل من الصناعة والخدمات ب 5%. كانت هنالك توازنات اقتصادية خيرة أسهمت في خلق حيوية في كل القطاعات. لذا توزع الناتج المحلي الإجمالي على 12% للقطاع الزراعي و68% للخدمات والبقية للقطاعات المرتبطة بالصناعة. 38% من السكان كانوا يعملون في الزراعة و39% في الخدمات والباقي في الصناعة. لم يشكل سكان المدن إلا 44% من المجموع، فبقي الريف حيويا في السكن والعمل والإنتاج ووصلت إليه الخدمات الاجتماعية الأساسية. نمت الصادرات سنويا بمعدل 14.5% كما ارتفعت الواردات فقط ب 5.1% , مما أسهم في تحسن أوضاع الميزان التجاري. لم يستفد الريف اللبناني من التطور إلا في تلك الفترة، لكن ما استثمر في ذلك الوقت لم يعد كافيا اليوم ليس كميا فقط وإنما من ناحيتي التكنولوجيا والتقدم والتنوع والانتشار. كانت سنة 1973 مفصلا مهما بسبب أزمة النفط وارتفاع سعر البرميل إلى حدود غير مسبوقة. أتت الأموال إلى المصارف اللبنانية وخرج اللبنانيون للعمل في دول الخليج المستثمرة في اقتصاداتها خاصة في البنية التحتية. حصلت في وقتها أيضا مشاكل سياسية واقتصادية في العديد من الدول العربية , مما سبب نزوحا للأغنياء إلى لبنان، فاستثمروا ووضعوا ودائعهم في مصارفنا. المشاكل السياسية معروفة، إلا أن الاقتصادية ارتكزت على التأميم مما دفع بالمواطنين العرب إلى اللجوء إلى لبنان. كان لعمل اللبنانيين في الخليج وما زال تأثير كبير على الأوضاع الداخلية إذ أسهمت التحويلات في تطوير الاقتصاد ورفع مستوى المعيشة في أوقات ضيق وتحديات صعبة. في هذا الوقت كانت الحكومات اللبنانية جدية في عملها المسؤول لمصلحة المواطنين، فوضعت برامج خماسية أولها لفترة 1964 – 1968 أسهمت في خلق مؤسسات عامة متعددة رقابية وغيرها وفي فهم دقيق لحاجات وإمكانات الاقتصاد. كان الاقتصاد اللبناني صحيا في نموه وتوزعه لكن بذور المشكلة الاجتماعية بدأت تظهر. لا بد وأن نذكر هنا أن الحد الأدنى للأجور كان 95 دولارا في سنة 1970 وكان مدروسا على عكس ما يحصل اليوم. كانت الحرب اللبنانية وكان الاحتلال الإسرائيلي في سنة 1982 وكان سقوط الليرة في فترة 1984-1985 كنتيجة ودافع للسقوط النهائي للدولة حتى توقيع اتفاق الطائف الذي أعطى فرصة للخلاص لم نستفد منها كليا بعد. لم يكن حل الطائف فاضلا لكنه أوقف الحرب وهذا مهم إلا أنه نقل الخلل السياسي والمؤسساتي من أمكنة إلى أخرى. مشكلة "الطائف" هو عدم قدرتنا كلبنانيين على تعديل مكامن الخلل فيه حتى ولو بدت ظاهرة في العديد من بنوده. في سنة 1987 وكنتيجة لسقوط النقد تدولر الاقتصاد اللبناني وما وزلنا غير قادرين على الخروج من هذا المأزق المضر الذي يتعمق أكثر فأكثر في عاداتنا وتصرفاتنا. في فترة 1970-1981 بلغ مؤشر التضخم السنوي حوالي 14.6% وانحدر الناتج المحلي الفردي بنسبة سنوية قدرها 5.5%. وصل مؤشر التضخم إلى 120% في سنة 1992 مما سبب ربط الليرة بالدولار، أي عمليا نعتمد منذ ذلك الحين السياسة النقدية الأمريكية في اقتصادنا اللبناني.ارتفعت الكتلة النقدية بمعدل سنوي قدره 17% في فترة 1974-1982 وإلى 339% سنويا في فترة 1983-1986. حصل زلزال اقتصادي خطير ميز فترة ما قبل 1975 مع ما بعدها ولا بد من تحديد المسؤوليات في المستقبل ليس فقط للمحاسبة , وإنما خاصة للتعلم من أخطاء الماضي وتجاربه. نمت الصادرات بنسبة سنوية قدرها 2% في فترة 1970-1981 والواردات ب 3.3% مما سبب انحدارا كبيرا متواصلا في الميزان التجاري اللبناني بعد سنوات من التغير الإيجابي. انحدرت نسبة العاملين في الزراعة إلى 11% من السكان بسبب الأمن وتدني مستوى الخدمات الاجتماعية في الأرياف. ارتفعت نسبة العاملين في الخدمات إلى 62% مما سبب بداية الخلل السكاني الاقتصادي الذي ما زلنا نعاني منه حتى اليوم. انتقل السكان من الريف إلى المدن حيث بلغت نسبتهم 77% مقارنة ب 44% في سنة 1960 كما ذكرنا. في الأمور المصرفية والمالية وبسبب الأوضاع المتدهورة تدريجيا ارتفعت الودائع 3.5 مليار دولار فقط في سنة 1987 مقارنة ب 12 مليارا في سنة 1982. انحدر الناتج المحلي الإجمالي فوصل إلى 2.5 مليار دولار في سنة 1988 أو 714 دولارا للفرد الواحد مقارنة ب ألفي دولار في سنة 1975. في الوقت نفسه تدنى سعر صرف الليرة من 4.5 للدولار إلى 500 ليرة في سنة 1988 أي وصل الحد الأدنى للأجور إلى 15 دولارا مما أسهم في دولرة الاقتصاد حتى تثبيت سعر الصرف في بداية التسعينات. ما زال الخلل الهيكلي للاقتصاد مستمرا حتى اليوم إذ أن النزاع السياسي يمنع عمليا تحقيق الإصلاحات الحقيقية. نحتاج إلى حكومة جديدة ليس فقط للقيام بالتعيينات الإدارية ولاتخاذ القرارات العادية، إنما نريدها أن تساهم في تصحيح هيكلية الاقتصاد عبر تنشيط الزراعة والصناعة كما عبر تطوير الريف لوقف النزوح السكاني وربما العودة إلى المناطق. تصحيح الخلل ممكن في ظل حكومات متجانسة وفاعلة تتخذ قراراتها بسرعة بالتعاون مع مجلس نيابي يقر التشريعات والموازنات كي تصبح الدولة دولة. هل نقبل في لبنان مثلا أن يشكل الاستهلاك الخاص حوالي %80 الناتج أي نتفوق على الولايات المتحدة وهي الدولة الاستهلاكية بامتياز من دون أن تكون هنالك قوانين لحماية حقوق المستهلك نتيجة المنافسة الفوضوية وعدم رقابة الجودة حتى في الأدوية والسلع الغذائية. المجتمع اللبناني سيبقى استهلاكيا إذ هذه هي طبيعة اللبناني الراغب في العيش الهنيء، إلا أن المطلوب زيادة القدرات الإنتاجية ليس فقط في الخدمات وإنما خاصة في الصناعة والزراعة بحيث نخفف من الاستيراد ونستهلك السلع الداخلية. في مستوى الناتج الحالي أي 35 مليار دولار، يسير اقتصادنا في الاتجاه الخاطئ. هل من الممكن تطوير الإنتاج في غياب التوفير الداخلي الكافي الذي تبتلعه الموازنات العاجزة؟ الحلول مترابطة، إذ أن بقاء عجز القطاع العام كبيرا يمنع تمويل القطاع الخاص بتكلفة تنافسية مقبولة. الأسواق المالية ما زالت غير متطورة، وبالتالي ما زلنا تقليديين في تمويلنا.لا يمكن تطوير الاقتصاد من دون تعزيز أوضاع الشركات الصغيرة التي تميز الاقتصاد اللبناني وتشكل القسم الأكبر من قطاعه الخاص. فالحلول للأوضاع الهيكلية تعتمد على وضع السياسات الاقتصادية التي تغير التوازنات الداخلية ليس إلى ما كانت عليه في السبعينات وهذا مستحيل وربما لا جدوى فيه، وإنما تصحح الخلل نحو أفضل الممكن.