12 سبتمبر 2025
تسجيلأن يتنازل الحاكم أو الملك أو الرئيس لنائبه، فهو تصرف نادر من نوادر العمل والسياسة، خصوصا في عالمنا العربي الذي شعار حكامه: "لنا السلطة دون العالمين حتى القبر".ولقد سجل لنا تاريخنا الحديث حادثتين نادرتين للتنازل عن قمة السلطة: سوار الذهب بالسودان، والشيخ حمد بن خليفة آل ثاني في قطر، وهما تنازلان سجلهما التاريخ بأحرف من نوادر المياه المعدنية الثمينة، فالأول تنازل عن السلطة كما وعد، والثاني سلم السلطة بكل طواعية وثقة لولي عهده الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، الأول أوفى بوعده، والثاني أوفى لبلاده وشعبه وتصرف لما آمن بأنه الأفضل لمستقبل قطر. لكن التاريخ يكاد أن يخلو من أشخاص تنازلوا عن ولاية العهد أو نيابة الرئيس، لكن قبل أيام، سجل الأمير مقرن بن عبد العزيز سابقة لا يسجلها إلا من هم من نوعيته ومعدنه، فلقد تنازل عن ولاية العهد بأكبر وأهم مملكة عربية وإسلامية لما رأى أنه للصالح العام، وليتسلم مشعل القيادة الأمير محمد بن نايف، ويأتي ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان. حين استلم الأمير مقرن منصب ولاية العهد أشفقت عليه، ومبعث شفقتي عليه نابع من معرفتي له ولطبيعته بالتفاني والإخلاص والعمل الدءوب الذي لا يعرف ليلا ولا نهارا، ولا أخفي جانبا أنانيا بشعوري بالشفقة على نفسي، فقد كنت متأكدا بأن أثقال المنصب وأعباء المسؤولية ستقلل من تواصلنا كأصدقاء، وهو أمر طبيعي في مثل هذه الحالات. عرفت الأمير مقرن منذ ما يقرب العشرين عاما، وعرفت فيه خصالا وصفات يندر أن تجتمع في شخص واحد، خصوصا حين تقترن بالشعور بالمسؤولية ومهام العمل الرسمي الذي تبوأه أميرا لحائل بعد تقاعده من سلاح الجو السعودي طيارا حربيا يقود الإف 15 الأكثر تقدما وتكنولوجيا في عصرها، ثم أميرا لمنطقة المدينة المنورة، ومديرا للاستخبارات العامة ومستشارا للملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز، ثم وليا لولي العهد ووليا للعهد بعد تولي الملك سلمان بن عبد العزيز الحكم، وهو المنصب الذي آثر الترجل عنه فارسا ليسلمه لفارس آخر يرى فيه قدرة عُمْرية مناسبة لأداء المهمة. كعادتي، أتحاشى الكتابة عن الأشخاص في موقع المسؤولية، وأشيد بمواقفهم دونما مديح أشخاصهم، والحق أن الأمير الإنسان والصديق مقرن بن عبد العزيز ليس شخصية عادية، فهو متعدد المواهب والمعارف ويصدق فيه القول الشعبي "تعب على نفسه"، حيث يمكن اعتباره موسوعة متنقلة، يجيد أكثر من لغة، ويهتم بالفلك والزراعة والحياة البحرية والبيئة والتكنولوجيا والشعر ويلم بالفنون والثقافة ويقرأ بنهم حول مواضيع شتى، يفاجئك بكتاب حديث الصدور لم يصل أرفف المكتبات بعد، ويتصرف بتلقائية وتواضع العلماء، عاكسا بذلك طبيعة منشأه وتربيته وغزير علمه ومعرفته. لعلي من القلائل الذين لم يتفاجأوا حين طلب الأمير مقرن إعفاءه من منصبه، فالرجل من النوع الذي يتسامى فوق أي منصب إخلاصا لما يعتقد أنه أفضل، ولن يتردد باتخاذ أي قرار يرى صوابه ولو كان ذلك يعني تخليه عن منصب الرجل الثاني بالمملكة العربية السعودية إن كان في ذلك خدمة لبلاده وفي صالح مستقبلها. انسحب الأمير مقرن طواعية من منصب ولاية العهد، وهو انسحاب قدره الملك سلمان وولي عهده الجديد الأمير محمد بن نايف وولي ولي عهده الأمير محمد بن سلمان، الذين قاموا بزيارة شكر وعرفان له بمنزله بالرياض، في رسالة تقدير يفهمها من يعرف الأمير مقرن بأن انسحابه من المسؤولية الرسمية لا يعني الاستغناء عن خبراته التراكمية التي لا تستوعبها المناصب ولا يفرط بها المخلصون – ولهذا كانت الزيارة - الرسالة. من المعاني العديدة لكلمة "قرن" التي اشتق منها اسم الأمير مقرن قمة الجبل وأعلى ما فيه. الأمير مقرن قمة في التواضع والخلق الجم والأدب والتفاني والنزاهة في عمله وفي حياته.