19 سبتمبر 2025
تسجيلكان إعلان الرئيس السوداني إطلاق الحريات السياسية والإعلامية مبهراً لكل المراقبين ولم يتزحزح النظام عن هذا الطريق الوعر حتى الآن، بل وجدت القوى السياسية المعارضة نفسها أمام امتحان صعب تكاد تسقط فيه.. لم تعقد حتى اليوم ومنذ إطلاق الحريات أي قبل حوالي شهر إلا ثلاث ندوات جماهيرية في الميادين العامة، في حين أن هناك أكثر من (90) حزباً مسجلا.. لم تتعرض السلطات لتلك الندوات رغم أن المتحدثين تعرضوا لنقد لاذع للحكومة حتى أن بعضهم تعرض لأكثر القضايا حساسية وهي قرار المحكمة الجنائية الدولية بشأن الرئيس البشير وطالبوا بتسليم البشير نفسه لتلك المحكمة.. الشرطة أعلنت على لسان قائد لها أنهم في انتظار طلبات حزبية لتسيير مظاهرات في إطار الأنشطة الحزبية المسموح بها، وحديث الشرطة يعني أنها لم تتسلم حتى الآن أي طلب بهذا الخصوص.نظام الرئيس البشير يأمل في أن تفضي هذه الخطوات الجريئة و(المكلفة) سياسياً إلى انفراج سياسي ينقذ البلاد من تدهور سياسي واقتصادي في ظل أوضاع إقليمية متأزمة خاصة في دولة جنوب السودان.. ففيما تستمر حرب الأطراف في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق مستنـزفة أموالا طائلة من خزينة الدولة، في الوقت نفسه يواصل الجنيه السوداني انخفاضه المريع أمام الدولار إذ وصل مستويات غير مسبوقة، وهذا يعني زيادة كبيرة في نسب التضخم الأمر الذي ينعكس مباشرة على أحوال المواطنين المعيشية. الولايات المتحدة الأمريكية التي لا تخفي رغبتها في إسقاط نظام البشير تحاصر الخرطوم اقتصاديا منذ ما يقارب (25) عاما، إذ ترى فيه مثالا صارخاً لما تسميه بـ(الإسلام السياسي).. بيد أنه لا يبدو أن الضغوط الاقتصادية ستسقط النظام بل المتضرر الوحيد هو الشعب السوداني، وحاولت واشنطن من قبل إسقاط نظام صدام في العراق عبر الحصار الاقتصادي الكامل دون جدوى إلى أن أتت بجيوشها الجرارة واحتلت العراق في تعد صارخ لميثاق الأمم المتحدة وقفز فوق كل القوانين والأعراف الدولية وسقط صدام لكن سقطت معه الدولة العراقية التي تفرقت شزرا مزرا وغرقت الدولة التي كانت في دماء الحرب الأهلية والطائفية وتحول الشعب العراقي إلى شعب لاجئي. المعارضة السودانية لا يبدو أنها تريد توفير طوق نجاة للنظام بل تريد استغلال حالة الضغوط المتكاثرة على البشير للوصول إلى ما تسميه بحكومة انتقالية تأتي على أنقاض تفكيك النظام كليا.. فالبشير يريد تدافعا حزبيا في إطار سيطرته على مفاصل الدولة وأن تدخل الأحزاب الانتخابات العامة في 2015 مما يعطي لها مصداقية كبيرة لكن حتما سيكون التفوق لحزب المؤتمر الوطني الذي يرأسه البشير نفسه ولا بأس من أن تنال بعض الأحزاب حصة مقدرة دون أن تتأثر أغلبية حزب الرئيس كثيراً وبهذا يكون البشير قد حقق أهدافه من حملة إطلاق الحريات التي أعلنها.. لعل أبرز ما حققه البشير خلال حملته تلك المصالحة التي حققها مع أشرس معارضيه حسن الترابي زعيم حزب المؤتمر الشعبي الذي انشق عن حزب البشير قبل (15) عاما مضت.. لكن الترابي أعلن في حوار نشرته صحيفة الشرق القطرية أن الحوار الذي أطلقه البشير سيفضي إلى حكومة انتقالية وهذا خلاف ما يعلن عنه البشير من أن الحوار ليس مقصودا منه تفكيك نظامه.. حتى هذه اللحظة لم تقابل تصريحات الترابي بأي ردة فعل - سلبية أو إيجابية - من قبل النظام.المتشككون يقولون إن اتفاقا سريّاً (جنتل مان) قد أبرم بين البشير والترابي وأن الذي يجري في الساحة السياسية السودانية ليس إلا تغطية بل تجميل وتهيئة لتنفيذ ذلك الاتفاق وأن تبادلا محكما للأدوار يجري بين الرجلين حتى أن الرموز السياسية الأخرى في كلا الحزبين (الوطني والشعبي) خارج إطار ذلك الاتفاق.. الترابي يدرك أن ما يجري إقليميا ضد جماعة الإخوان المسلمين سواء في مصر أو المملكة العربية السعودية يتطلب تغييرا كبيرا في إستراتيجيته تجاه نظام الرئيس البشير، كما يدرك الترابي أن تفكيك النظام لا يتم بهذه السهولة عبر خطوة يقوم بها طواعية وإلا فإن دماءً كثيرة سوف تسيل قبل بلوغ هذا الهدف وحينها قد لا يجد السودانيون وطنا يصطرعون عليه.. إذن فإن المراقب للأوضاع في السودان قد لا يتوقع تفكيكا لنظام البشير كما تريد المعارضة كما أن استمرار الأوضاع على ما هي عليه لا يمكن أيضا توقعه.. المحصلة إن الترابي هو الرابح الأوفر حظا من بين المعارضين والبشير كذلك الرابح الأوفر حظا من بين رموز نظامه.