15 سبتمبر 2025
تسجيلبغض النظر عن (جزئية) الانسحاب الروسي من سوريا، من الواضح، بحسبةٍ بسيطة، أن تَبِعاته كانت وستبقى سلبيةً بالنسبة للنظام، وستصب في مصلحة قوى الثورة، إن أتقنت التعامل مع المعطيات الراهنة والقادمة.لكن المؤكد أن الموقف الروسي بالنسبة للقضية السورية يمثل جانبًا واحدًا فقط من صراعٍ تحاول روسيا أن يكون (إستراتيجيًا) مع الغرب، وأمريكا تحديدًا. وهذا صراعٌ كانت أوروبا، وستبقى الموقع الأساسي له. وليست سوريا سوى هامش مناورات تكتيكي جيوسياسي فيه.ثمة حقيقةٌ يجب استحضارها على الدوام فيما يتعلق بهذا الموضوع بعيدًا عما هو شائع. فبمقاييس (القوى العظمى) الحقيقية اقتصاديًا وسياسيًا واجتماعيًا وثقافيًا وحتى عسكريًا، لم يعد ثمة مجالٌ للمقارنة بين أمريكا وروسيا منذ سقوط الاتحاد السوفيتي السابق، والأرقام والشواهد العلمية المتعلقة بهذا الموضوع أكثر من أن تُحصى بالنسبة للمتخصصين. بين عامي 1990 - 1995 فقط انخفض الناتج المحلي الإجمالي والإنتاج الصناعي لروسيا بنسبة 50%، وشهد معدل الوفيات ارتفاعًا كبيرًا، وهوى ملايين الناس في براثن الفقر بحيث ارتفعت نسبة الفقراء من 1.5% في ظل الدولة السوفيتية إلى قرابة 50%، مع انتشار الفساد والفوضى والمافيات وارتفاع نسب الجريمة والبطالة بشكلٍ مخيف، فضلًا عن النتائج الكارثية لتمرد الشيشان والحرب فيها.كان هذا واقعًا مُعترفًا به، عمليًا، من قِبلِ روسيا قبل أمريكا. لكن الطرفين لم يمانعا، أيضًا، في استمرار الحديث النظري عن كون روسيا (دولةً عظمى) إعلاميًا ودبلوماسيًا، حيث كان هذا (الانطباع) يحقق لكلٍ من الدولتين أهدافًا تناسب طبيعتها ودورها في النظام العالمي الجديد الذي ظهر بعد سقوط المعسكر الشرقي.وصل الرئيس فلاديمير بوتين إلى الحكم عام 1999، وبحكم خلفيته الأمنية، خلال وجود الاتحاد السوفيتي وبعد زواله، ومع شخصيته الطموحة القوية، طبق الرجل سياسات تضمن وجوده واستمراره رئيسًا قويًا لروسيا قوية تحت سيطرته المباشرة. وخلال 14 عامًا، منها 4 بشكلٍ غير مباشر تحت رئاسة صورية لديميتري ميدفيديف، استطاع تحقيق إنجازات اقتصادية أعادت للبلاد شيئًا من التوازن الداخلي المضبوط، لكنه استثمر بشكلٍ كبير في الصناعات العسكرية. وبالنتيجة، بدأ الرجل يبحث عن دورٍ أكبر لروسيا بوتين، الأمر الذي بدا، من بعيد، خرقًا للتفاهم الروسي الأمريكي.في إطار التفاهم المذكور، كان المجال الحيوي الجيوسياسي لروسيا يتضمن السيطرة السياسية غير المباشرة على الدول المجاورة لها بما فيها أوكرانيا. بدأت المشكلات في هذا البلد الحساس بالنسبة لروسيا عام 2004 واستمرت في التصاعد حتى انفجرت بشكلٍ كامل عام 2014، لتُصبح العامل الأهم في تذكير بوتين بالتفاهمات الأصلية، وبضرورة ضبط طموحاته لتبقى في إطارها.ذكرنا في الجزء الأول من هذا المقال واقع الحصار العسكري والاقتصادي والدبلوماسي الكثيف الذي تعرضت له روسيا، ولاتزال، خلال العامين الماضيين. من هنا، جاء قفز بوتين، المؤقت دائمًا، إلى سوريا في أواخر العام 2015 كهامشٍ أراد الحركة فيه بدرجةٍ مقبولةٍ أمريكيًا لأنها تُساعد على تحقيق أهداف تكتيكية لها تتعلق بحساباتها في المنطقة، وبحيث يمكن اعتبارها أيضًا حركةً تتطلب ثمنًا يتعلق بالصراع الأصلي، مع كونها تدخل في سياق روح التفاهم الأصلي الذي يسمح بالاستعراض الإعلامي والدبلوماسي، والعسكري في هذه الحالة فقط، لروسيا. من هنا، وبعيدًا عن مقولة (الانسحاب) الأمريكي من المنطقة، وهو أمرٌ ليس في يد الرئيس أوباما، حتى لو أراده حقًا، وهذا أمرٌ يحتاج لمزيد تحليل، فإن الدور الروسي في سوريا يتعلق بالصراع الأساسي المذكور في جزءي هذا المقال. ولايجب أن يكون مصدر تشويشٍ كبير لحسابات المعارضة بعد الجولة الأولى من مفاوضات جنيف3. قد يُفسر هذا التحليل، مثلًا، التناقض الذي يكاد يكون هزليًا فيما يتعلق بمصير بشار الأسد خلال الأيام التي تلت انتهاء الجولة المذكورة. فبعد اجتماع كيري ببوتين عشية انتهاء المفاوضات يصرح نائب لافروف أن "واشنطن تفهمت موقف موسكو بأن مستقبل الأسد يجب ألا يُبحث في الوقت الراهن". وفي اليوم التالي، يَصدر بيانٌ رسمي عن مايكل راتني، مبعوث أمريكا الخاص لسوريا، يؤكد فيه أن "نوع الانتقال السياسي الذي نتحدث عنه ليس شيئًا غامضًا وإنما هو انتقالٌ بعيدٌ عن بشار الأسد". وبعدها بيوم، تنقل رويترز عن وكالة الإعلام الروسية أن السفارة الأمريكية في روسيا ذكرت أن مدير المخابرات المركزية الأمريكية جون برينان أثار مسألة رحيل بشار الأسد مع المسؤولين الروس، وحصل هذا خلال زيارة له في أوائل شهر مارس، أي قبل قرار سحب القوات الروسية من سوريا. ورغم استمرار التشويش، وربما التناقض البناء، في هذا الموضوع تحديدًا، فإن انتباه المعارضة السورية يجب أن يكون مركزًا على ما تستطيع هي فعلهُ، وعلى ما هو في مجال تأثيرها العملي، بدلًا من ضياع الجهد والوقت في محاولات تفسير الموقف الروسي، وتفكيك ألغاز خلفياته وارتباطاته.هل من الحكمة القبول بمسألة كتابة الدستور في هذه المرحلة كما في مقترح دي ميستورا؟ هل يمثل الفصل بين المسارين السياسي والإنساني الطريقة الأمثل فعلًا لتحقيق مصالح الثورة والسوريين؟ ما هي المكاسب التي تحققت حتى الآن فعلًا مقابل الذهاب إلى جنيف؟ ماذا عن قضايا الشفافية والمؤسساتية في عمل الهيئة العليا للمفاوضات؟ هذه أمثلةٌ على ما يجب أن يكون أجندة اهتمام المعارضة في هذه الفترة. وهو ما سنعود له بالتفصيل في الجزء الأخير من المقال.