13 سبتمبر 2025
تسجيلكان الحديث عن دعم الولايات المتحدة للأنظمة القمعية هو الشماعة التي يعلق عليها الباحثون فشل تجارب التحديث والتحول الديمقراطي في بلدان الشرق الأوسط طوال العقود الماضية، حيث كانت الإدارات الأمريكية المتعاقبة تتدخل بشكل مباشر أو غير مباشر لكي تحافظ على تدفق مصالحها، وكان يلزمها أن تحمي وكلاءها الإقليميين بأي ثمن، حتى لو ترتب على ذلك تراجع الحريات في هذه المنطقة من العالم على نحو استثنائي. ولكن منذ قيام الثورات العربية خفت الحديث عن أي دور سلبي للولايات المتحدة، وانصب كل اللوم على الأنظمة الداخلية. فهل تراجعت الولايات المتحدة بالفعل عن التدخل في شؤون المنطقة وتركت الشعوب لكي تقرر مصائرها بأيديها؟ إن محاولة الإجابة عن التساؤل السابق حول طبيعة التدخل الأمريكي في أنظمة ما بعد الثورات، تستدعي تدبرا موازيا للدور الذي لعبته روسيا لاستعادة حليفتها أوكرانيا بعد أن شهدت الأخيرة الثورة التي وصفت بالبرتقالية، حين احتشد عشرات الآلاف من المواطنين في ميدان الاستقلال في العاصمة كييف للاحتجاج على تزوير الانتخابات قبل أن يتحول احتجاجهم إلى عصيان مدني شل مؤسسات الدولة واستدعى قيام المحكمة العليا بالحكم ببطلان الانتخابات الرئاسية والدعوة لانتخابات جديدة، أتت بالمعارض فيكتور يوشينكو إلى كرسي الحكم. حينها لم تقبل روسيا أن تفقد حليفتها المهمة، ودفعت باتجاه استعادة أوضاع ما قبل الثورة، ساعدها على ذلك تراكم الصعوبات في وجه الحكم الجديد، حيث انخفض إجمالي الناتج القومي الداخلي بنسبة 15 بالمائة، وتضاعف عدد المواطنين الذين يعيشون تحت خط الفقر، وتضاعفت أسعار المواد الغذائية مرات عديدة. قبل أن تنجح المشاكل الداخلية مدعومة بالضغط الروسي في تحويل الثورة البرتقالية إلى كابوس مؤرق، ومبعث أسف على آمال لم تتحقق، وكان المشهد الختامي لهذا العرض الهزلي أن تمكن ممثلو النظام القديم من العودة للحكم مرة أخرى، ثم لم يلبث أن بدأوا في محاسبة قادة الثورة والزج بالعديد منهم في السجون عقابا على اتهامات يبدو الكثير منها ملفقا. تدخل القوى الكبرى في شؤون حلفائهم إذن ليس عملاً من أعمال الهواة، فقد انتظرت موسكو خمس سنوات كاملة قبل أن تستعيد حليفتها التقليدية، فهل يكون الدور الأمريكي في بلدان الشرق الأوسط أقل طموحا، وهل يمكن تخيل أن الولايات المتحدة قد انتابتها صحوة ضمير مفاجئة تمنعها من ممارسة التدخل الفج في شؤون المنطقة، تبدو الإجابة بالنفي قاطعة في هذا الصدد. فالدول العظمى لا تتخلى عن مصالحها الإقليمية بسهولة، ولا تنتظر ما تسفر عنه التفاعلات السياسية، ولكنها تعمل على توجيه هذه التفاعلات في وجهات بعينها، ولا تنتظر اكتمال النتائج، ولكنها تفرض النتائج التي تريدها، بعد أن تقرأ المشهد الداخلي بدقة ربما لا تتوافر لمن هم في داخل التفاعلات المربكة. أما ما يجعل التدخل الأمريكي يبدو ــ ظاهريا ــ في حده الأدنى حتى هذه اللحظة فربما لأنها لا ترى في سلوك أنظمة الربيع العربي ما ينذر بتحولات كبرى عما كان عليه أسلافهم، فما تقدمه الأنظمة الجديدة لا يعدو أن يكون صورة منقحة لسياسات الأنظمة القديمة، لا تتضمن ــ وهذا هو المهم لأمريكا ــ ما يوحي بأنها ستمثل تهديدا لإسرائيل، أو ستحاول عرقلة المصالح الأمريكية في المنطقة عبر خطابات شعبوية مماثلة لخطابات العهد الناصري على سبيل المثال. ولكن هذا لا يعني أن الإدارة الأمريكية لا تمارس التدخل في شؤون المنطقة بطرق ناعمة يصعب رصدها ولكن لا يصعب استشعار آثارها. وعليه فإن على أنظمة الربيع العربي أن تكون واعية بأساليب التدخل الناعم هذه، وألا تركن إلى وهم حياد الدول الكبرى، فأمريكا قد لا تكون بعيدة عما تشهده هذه الأنظمة من فوضى داخلية، تهدف إلى تجهيز الأرض لاستعادة الأوضاع القديمة بحذافيرها، وحينها لن تنفع الروح التهادنية التي تحاول أنظمة الربيع العربي أن تغلف من خلالها علاقاتها بواشنطن. وفي هذا السياق يبدو المثال الأوكراني صالحا للاقتباس مرة أخرى، فعندما قررت رئيسة الوزراء الأوكرانية يوليا تيموشينكو أن تتجاوب مع التوازنات السياسية والاقتصادية، واتجهت للتصالح مع روسيا، والتودد إلى رئيس الوزراء الروسي فلاديمير بوتن بعقود تجارية مغرية، لم يشفع لها هذا عند الروس، الذين أسلموها بعد ذلك للمحاكمة على يد رجلهم العائد إلى السلطة فيكتور يانكوفيتش، وهي الآن تقضي فترة عقوبة بالحبس نظير تسهيلات قدمتها لروسيا فيما يتعلق ببيع المحروقات. من ناحية أخرى فإن التغييرات التي تحدث في التركيبة السياسية الأمريكية ينبغي أن تكون أيضاً في الحسبان، فحتى لو أظهرت الإدارة الديمقراطية الحالية نوعا من التودد لأنظمة الربيع العربي، فإن أي إدارة جمهورية قادمة يمكنها أن تنقلب تماماً على هذا الوضع، وتظهر الوجه التدخلي السافر للأمريكيين. وحينها ستكون الأجواء المترددة التي تسيطر على أنظمة الربيع العربي مثالية للتدخل الأمريكي التقليدي. والخلاصة أنه على أنظمة الربيع العربي أن تدرك أن الهدوء على الجبهة الغربية ليس أبديا. كما أن عليها ألا تتماهى مع ما يريده الأمريكيون، فربما انقلبت الولايات المتحدة على دور المروض الذي تقوم به حاليا، وعادت إلى لعب دور الصياد الصريح الذي لا يتورع عن اقتناص فريسته، كما أن على الأنظمة العربية الجديدة أن تسعى إلى أن تطور تصورا لطبيعة دورها على المستوى الخارجي بما يخدم أهدافها ودورها ومصالحها الإقليمية، ومن ناحية أخرى لابد من تحكم قبضتها على المستوى الداخلي، فحالة السيولة التي يعاني منها الوضع السياسي والأمني تغري بعض ضعاف النفوس بأن يبادروا إلى تقديم خدماتهم إلى من يريدها خارج الحدود، والمشكلة أن هناك دائما من يتطوعون لأداء هذا الدور ممن يرون أن مصلحتهم هي دائما في الجانب الآخر.