02 أكتوبر 2025
تسجيلتدل أزمة قبرص بوضوح على أن النظام الاقتصادي الصناعي لم يتعاف بعد.. "الركود الكبير" مستمر في كل أوروبا وبدرجات مختلفة. يمكن القول إن قبرص لم تكن جاهزة للانضمام إلى منطقة اليورو كما أن اليونان متهمة بالتلاعب بالأرقام كي تقبل. الواقع هو أنهما انضمتا إلى المنطقة وتعانيان من نتائج قرارهما. كان الخيار القبرصي الأخير واضحا بين الإفلاس أو قبول الدواء المزعج والمكلف للبقاء في منطقة اليورو. خيار الإفلاس يعني ترك النقد الأوروبي والعودة إلى نقد وطني وسقوطه حكما في السوق مما يشجع على زيادة الصادرات. اعتماد نقد وطني يعني إفقار البلد بحيث تسقط الأجور والأرباح وينحدر مستوى المعيشة. اعتماد خيار البقاء في منطقة اليورو يحصل ضمن شروط قاسية، أسوأ ما فيها أنها تشكل سابقة لدول تعاني من الداء القبرصي أي عجز مالي مرتفع ودين عام مقلق كما قطاع مصرفي مضخم يوازي أضعاف الناتج المحلي؛ وضع اليد على الودائع حتى على تلك التي تفوق مئة ألف يورو مقلق في المبدأ، وما كان محرما ومستحيلا وممنوعا يحصل بل يمكن أن يصبح مقبولا في دول أخرى وقريبا. لا شك أن الودائع ستترك المصارف القبرصية عندما تسمح لها الظروف بذلك، أي عندما ترفع الدولة يدها عن الودائع ويتمكن المواطن أو الشركة من التصرف بأموالهما. أين ستذهب هذه الأموال وفي طليعتها الروسية؟.. من المتوقع أن تعود إلى بلد المنشأ أو تذهب إلى اليونان وربما إلى دول أوروبا الشرقية ككرواتيا وصربيا وألبانيا وغيرها. لا شك أن قبرص مذنبة لناحية ما وصلت إليه، لكن الحلول أيضا لها مساوئها على العالم وضربت ركائز الرأسمالية من ناحية سطو الدولة على ودائع مواطنين ربما يكون معظمهم أو بعضهم أبرياء من نواحي تبييض الأموال أو التهرب من الضرائب أو تمويل الإرهاب. في الحقيقة لم تنته أزمة قبرص بعد، بل إن تداعياتها بدأت وهي تفوق بكثير حجم الجزيرة وتأثيرها ودورها الاقتصادي في أوروبا. قبل الأزمة المالية الدولية الحالية، كانت الدول النامية والناشئة فقط تطلب المساعدات الدولية من هبات وقروض. في سنة 1976، قامت الحكومة البريطانية بالتقدم بطلب قرض من صندوق النقد الدولي وكانت هذه الأخيرة لها. في نفس الوقت تقدمت إيطاليا والبرتغال وإسبانيا بطلبات مماثلة وحتى الولايات المتحدة قامت باستعمال احتياطها في الصندوق للدفاع عن سعر صرف الدولار في الأسواق النقدية العالمية.. آخر مرة دولة صناعية تقدمت بطلب من صندوق النقد الدولي للمساعدة كانت البرتغال في سنة 1983 وبالتالي تركزت جهود الصندوق منذ ذلك الوقت وحتى سنة 2008 على إقراض ومساعدة الدول النامية والناشئة فقط. اعتمدت الدول الصناعية منذ سنة 1983 على سياسات تنقلت بين المحافظة والمتهورة؛ ضبطت إنفاقها في المرحلة الأولى لتعود إلى الإفلاس فيما بعد. ارتفعت نسب عجز الموازنات كما زاد ثقل الدين العام نسبة للناتج. لم تعتمد الدول الصناعية على قدراتها الإنتاجية بل أنفقت كثيرا واقترضت الكثير من آسيا ودول الخليج العربي، أصبح الاقتصاد الغربي متكلا على رغبة آسيا والصين خاصة في إقراضها أحيانا بفوائد عالية. انتقلت الاقتصادات الصناعية من اعتماد النموذج الواعي والعلمي والمحافظ إلى آخر متهور لا يمكن أن يستمر، فوقعت الخسائر بدءا من سنة 2008 مما سبب ضرب الثقة التي تشكل ركيزة النمو والتطور. منذ السبعينيات؛ اعتقد المجتمع الدولي خطأ وفي مقدمه مؤسسات الإقراض الدولية أن الأزمات هي نتاج طبيعي للاقتصادات الناشئة والنامية، وأن الاقتصادات الغربية محصنة بل لها مناعة قوية نهائية ضد الخضات النابعة أصلا من سوء الإدارة والفساد والديون التي تتميز بها الاقتصادات الأقل غنى. كانت الاقتصادات الناشئة والنامية معرضة مبدئيا أكثر بكثير بسبب عدم نضجها المالي، هشاشة الديمقراطية والمؤسسات، غياب دولة القانون، ضعف الشفافية والمحاسبة، وجود قيود ورقابة قاسية على الأسواق في وقت ينمو خلاله الدين العام من مصادر خارجية أي بالنقد الأجنبي.. ترسخت هذه القناعة بالرغم من حصول أزمات مصرفية عميقة في اليابان والدول الاسكندينافية في الثمانينيات والتسعينيات وبالرغم من حصول أزمات نقدية في بعض الدول الأوروبية والتي شكلت دافعا لها لاعتماد اليورو كنقد مشترك. في الحقيقة كل هذه الأزمات لم تكن بحجم وعمق الأزمة الآسيوية التي حصلت في فترة 1997 / 1998 ولا في حجم عمق وقوة الأزمتين الروسية والمكسيكية. هل تعلم العالم منها؟ تشير الوقائع إلى العكس. تقدمت أيسلاندا بطلب قرض من صندوق النقد الدولي في أواخر سنة 2008 تبعتها اليونان وأيرلندا والبرتغال مما يشير إلى تغير ركائز الاقتصاد الدولي لمصلحة الدول الناشئة وضد نفوذ الدول الصناعية. تأثر العديد من الدول النامية والناشئة بأزمة الاقتصاد الغربي لكنها تعافت بسرعة على عكس الدول الصناعية التي ما زالت تعاني. كان الرئيس الفرنسي واضحا في آخر مقابلة تليفزيونية له بشأن الأزمة وتأثيرها على النمو والبطالة التي لن تبدأ في الانحسار بأفضل الحالات إلا بدءا من أول 2014 بالرغم من كل السياسات والوسائل والأدوات المتبعة. جميع الحكومات الأوروبية الغربية معرضة للتغيير اليوم في حال حصول انتخابات. ربما يسقط فرنسوا هولاند وديفيد كامرون وحتى أنجيلا ميركل. أما الانتخابات الإيطالية، فسببت مشاكل إضافية بسبب عدم اقتناع المواطنين بالخيارات المتاحة بل ربما بسبب ضياعهم وعدم استطاعتهم حسم خياراتهم السياسية والاقتصادية. تتخبط إيطاليا اليوم في أزمة حكومية بسبب الانقسام وعمق المشاكل الاقتصادية والاجتماعية المتراكمة. لماذا تستمر الأزمات في الاقتصادات الصناعية بالرغم من الجهود المبذولة في كل الاتجاهات؟ هل هي أزمة أنظمة أم مشكلة ثقة؟ هل تقع الاقتصادات في مأزق عميق لن تستطيع الخروج منه مع السياسات الحالية؟. أولا: حجم الديون والسياسات التقشفية المتبعة للتخفيف من وطأتها على الاقتصاد والتي تضرب في نفس الوقت النمو. في الواقع إن الخيارات ليس كبيرة للدول المدينة، وتتلخص أولا في رفع نسبة النمو إلى أعلى من معدل فوائد الديون وهذا ما لا يحصل إذ يبقى النمو ضعيفا أو غائبا وبالتالي أدنى من معدل الفوائد المتدنية أصلا. الخيار الثاني هو أصعب أي إلغاء قسم من الديون كما حصل في اليونان، حتى لا نقول السطو على قسم من الودائع لتسديد ديون قديمة أو جديدة.