17 سبتمبر 2025
تسجيللم أكن مستوثقا مثلما استوثقت بالأمس القريب من الإرادة والثقة المطلقة التي يتمتع بها الدكتور التيجاني سيسي رئيس السلطة الإقليمية لدارفور ورئيس حركة التحرير والعدالة.. في ندوة سياسة كبرى نظمها الاتحاد العام للصحفيين السودانيين كلفت بإدارتها، كان الرجل متحدثا رئيسا حول آخر تطورات الأوضاع في دارفور خاصة بعد أن تسلم سلطة الإقليم.. الرجل رسم لوحة دارفورية مستخدما ألوانا رئيسة، هي ألوان السلام والتفاؤل والانشراح.. صحيح أن للرجل قدراته الخاصة والكاريزما التي تميزه عن غيره من سياسيي دارفور، بيد أن العلاقات القوية بين الخرطوم والدوحة شكلت أرضية قوية مكنت السيسي من السير عليها بخطوات واثقة.. لقد تولى السيسي من قبل حكم دارفور وعمره 35 سنة كأصغر حاكم لدارفور، وقد عينه الصادق المهدي زعيم حزب الأمة ورئيس الوزراء السوداني آنذاك في ذلك المنصب المهم، وقد اتصفت إدارته حسب مقربين منه بالتوازن بين قبيلته الفور والقبائل الأخرى دون انحياز.. يعلم السيسي بل يفهم جيدا مشكلة دارفور وطبيعتها، فقد تم تعيينه خلفاً للدكتور عبد النبي علي أحمد وذلك على خلفية صراع مسلح انفجر بالإقليم في عهد (الصادق المهدي).. وقبل ذلك تولى السيسي مهام وزارة المالية في إقليم دارفور. في تلك الندوة شخص السيسي الأوضاع في دارفور ببراعة، وتحدث بإشفاق ممزوج بالتحدي موضحا أن مشوار التفاوض كان شاقا إلا أن مشوار إنفاذ اتفاق الدوحة هو الأكثر صعوبة ومشقة.. وتناول السيسي بجرأة سلبيات اتفاقية أبوجا التي رأى أن من سلبياتها أنها لم تستصحب آراء أهل دارفور مثلما الحال في وثيقة حيث برز مصطلح (أهل المصلحة) من زعماء الإدارة الأهلية والنازحون ومنظمات المجتمع المدني.. ويرى أن مدخل في السابق كان جهويا بينما في الراهن كان قوميا. ولعل أبرز ما أشار إليه السيسي في تلك الندوة، وهو ما لفت نظرنا كإعلاميين، تأكيده بأن قضية دارفور أصابتها الكثير من التشوهات نتيجة للتناول الإعلامي الخطأ خاصة في بداية المشكلة.. السيسي أشار بأسى إلى أن الإعلام الخارجي اليوم لا يتناول قضية دارفور رغم أن ما أنجز في ظل السلام يستحق الإبراز.. وشدد السيسي الذي بدا مهموما بدور الإعلام، على أن تنفيذ اتفاق الدوحة لن يتم بطريقة فعالة إلا من خلال خطة إعلامية استراتيجية ونرى من جانبا أن الأمر يحتاج لمشروع مارشال إعلامي يستوعب تلك التشوهات. أشرنا قبل عدة سنوات إلى تلك القرية السعودية المسماة "تلعة نزا" التي نشرت عنها صحيفة الحياة في لندن تقريرا مطولا جاء فيه أنها تقع على مسافة لا تزيد على 40 كيلو متراً عن مدينة ينبع الصناعية، إحدى أهم مدينتين صناعيتين في السعودية حالياً، حيث تعيش في هذه القرية 170 أسرة حياة بعيدة عن تطورات ومجريات القرن الحادي والعشرين.. يمضي التقرير الصحفي يقول: خدمات البنى التحتية الرئيسة تسير ببطء نحوهم، ولم يعد كبار السن فقط في حاجة إلى الضمان الاجتماعي، فشبان في العقدين الثاني والثالث، يرزحون في غياهب الجهل بحاجة أيضاً إلى مثل هذا الضمان. خصوصاً، وأن بعضهم يعيش على الاحتطاب، وآخرين على ما تبقى لهم من مواشٍ لا يتجاوز عددها أصابع اليدين، ومعظم السكان، الذين بدأ يتقلص عددهم، يعيشون تحت خط الفقر، ويرزحون في ظلمات الجهل، ويعيشون على جمع الحطب، وتربية الأغنام والإبل، والتي بدأت في الهلاك بعد انتشار مرض غير معروف مصدره أو سببه، بيوتهم المصنوعة من الحجارة، بدت كالهياكل ويمكن وصفها بكل شيء إلا بالبيوت، وكذلك الخيام.. لا شك أن نمط الحياة والثقافة المتوارثة سبب رئيس في هذه الحالة التي جعلت هذه القرية تبعد مئات السنين عن المدنية المعاصرة. لكن ماذا لو كان للإعلام الخارجي الموتور أجندة سياسية معينة في هذه المنطقة؟ يقيني أنه لجلب عليها بخيله ورجله، وأنتج مئات الصور والأفلام والتقارير التي تستجدي عاطفة الضمير الإنساني ولخرجت هذه الواقعة من سياقها الطبيعي وأصبحت قضية دولية يوعز فيها لمجلس الأمن لإصدار القرار تلو القرار ولقامت قائمة منظمات حقوق الإنسان ولم تقعد. بعض المتفائلين يرون أن المشكلة في قضية دارفور وفي سائر قضايا العالم الثالث تتعلق بنقص المعلومة الصحيحة والدقيقة بيد أن المسألة أكبر من ذلك بكثير إذ يتعلق الأمر بالنوايا السيئة المبيتة والمرتبطة بالأغراض السياسية.. لأن الأجندة السياسية حاضرة بقوة في قضية دارفور فقد خرجت هذه القضية من سياقها الطبيعي المتمثل في الصراع المتوارث بين القبائل الرعوية وتلك التي تعتمد الزراعة مكونا رئيسا لاقتصادها، وأضحى نمط الحياة والثقافة المتوارثة مكوّنا أساسا لتقارير ذلك الإعلام الظالم المأزوم بالنوايا السيئة.