16 سبتمبر 2025

تسجيل

تركيا و"الاستبداد الآسيوي"

03 فبراير 2013

شغل رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان الرأي العام التركي بموقف مثير وهو أن تركيا تدرس الخروج من عملية الاتحاد الأوروبي والانضمام إلى منظمة شنغهاي للتعاون التي تضم روسيا والصين وكازاخستان إيران وغيرها من دول. يعكس هذا التصريح أولا وأخيرا وقبل أي حساب للمكاسب والخسائر، أزمة الهوية التركية التي لم تنته منذ نهاية الحرب العالمية الأولى بعدما كانت على امتداد تاريخها عثمانية إسلامية الهوى ومعادية للغرب وقيمه ودفعت انهيارها ثمنا لوقوفها بوجه الغرب. وعندما جاء أتاتورك وأسس الجمهورية نحا بالبلاد غربا على صعيد اقتباس القيم الثقافية والحضارية فأسس علمانية معطوفة على مدنية وانتهج سياسات معادية للدين. وبعد الحرب العالمية الثانية حسمت تركيا خيارها السياسي أيضا بانضمامها إلى حلف شمال الأطلسي واعترافها بإسرائيل. وعندما انتهت الحرب الباردة لم تتخل أنقرة عن هذه السياسة. وبعد وصول حزب العدالة والتنمية كانت المفاجأة أنه سرّع من خطى الإصلاح وفقا لمعايير الاتحاد الأوروبي ما قرّب بلاده من عتبة الاتحاد. المفاجأة أن حزب العدالة والتنمية هو حزب إسلامي.لكن من مجريات التطورات اللاحقة بدا الحزب انه فضّل التباطؤ على طريق الإصلاح لأسباب غامضة. ولكن يتبين من متابعة السياسة التركية في الداخل والخارج أن الذهنية التي حكمت الطبقة السياسية سواء كانت علمانية أو عسكرية أو إسلامية لا تختلف لجهة إبقاء الحكم في تركيا في ظل ثنائية "القومية والإسلامية" التي حكمت البلاد منذ وصول حركة الاتحاد والترقي إلى الحكم عام 1909 بعد الانقلاب على خلافة السلطان عبدالحميد. هذه الثنائية التي أرسى عناصرها النظرية المفكر التركي من أصل كردي ضياء غوك ألب كانت تتعارض مع التحديات الإتنية والمذهبية والدينية التي كانت تواجهها تركيا ولا تزال. لذا بدا الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي فيما لو حصل بمثابة تغيير جذري في "أصول" الدولة وهوية الأمة التركية في اتجاه تعددية إتنية ودينية وثقافية لا يتحملها العرق التركي والاتجاهات الإسلامية وكان آخرها تصريح نائبة "علمانية"! عن حزب الشعب الجمهوري المعارض أن "الأتراك لا يمكن أن يتساووا مع الأكراد" في نزعة عنصرية كريهة. كثيرون قالوا إن حزب العدالة والتنمية صوّب وجهه شطر الشرق لأنه لاقى صدّا من الاتحاد الأوروبي. وهذا الكلام يمكن أن يكون صحيحا في جانب منه لكن جوهر المسألة أن حزب العدالة والتنمية نفسه لا يريد في الأساس الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. وما الإصلاحات التي قام بها في السنوات الأولى من حكمه إلا وسيلة للتخلص ضمنا من أكبر تهديد يواجهه وهو نفوذ العسكر في الحياة السياسية. وعندما تحقق له هذا الهدف على أساس أنه ضمن تعزيز الديموقراطية بدأ أردوغان ينسجم أكثر مع عناوين ما يختزنه هو ووزير خارجيته أحمد داود أوغلو من استعادة تركيا لدور مركزي في محيطها الإسلامي استلهاما من التجربة العثمانية بل السلجوقية. وأكبر مثال على ذلك أن أردوغان في المؤتمر الرابع الاستثنائي لحزب العدالة والتنمية الذي انعقد في الثلاثين من سبتمبر الماضي (2012) لم يشر أبدا ولو بكلمة خلال خطابه الذي استمر ساعتين ونصف الساعة إلى الاتحاد الأوروبي فيما ركّز على التاريخ العثماني والسلجوقي وضرب موعدا للشباب التركي في العام 2071 أي الذكرى الألف لانتصار السلاجقة على الروم البيزنطيين على جيش البيزنطيين في معركة ملاذكرد التي فتحت أبواب الأناضول أمام الأتراك السلاجقة. كلام أردوغان عن إمكانية انضمام تركيا إلى منظمة شنغهاي لا يبدو ابتزازا للإتحاد الأوروبي لكي يضغط عليه ويسهّل انضمام تركيا إلى الاتحاد. وبالتالي فإن إشارة أردوغان إلى شنغهاي تعكس قناعة داخلية إلى أن مكان تركيا ليس في أوروبا بل في الشرق الآسيوي موطن الاستبداد تاريخيا والتمييز وحيث لا أحد يحاسب تركيا أو غيرها على تمييزها ضد هذا العرق أو الدين أو المذهب وتتخلص من عبء الشروط الأوروبية الصعبة لبلد لا يريد قادته أن ينضموا إلى الحداثة بمعاييرها الأوروبية. بموقف أردوغان "الآسيوي" هذا تواصل تركيا مأزقها الحضاري ومأزق أن التحديث فيها لا يمكن أن يتحقق إلا برافعة خارجية. إذا كانت تركيا تريد أن تكون دولة حديثة وذات تأثير حضاري فليس أمامها سوى أن تطبق المعايير الأوروبية حتى من دون أن تصبح عضوا في الاتحاد الأوروبي. فتكون دولة حديثة وقادرة على ممارسة دور تأثيري في كل محيطاتها الإقليمية. وإلا فإن سياسة "النطنطة" ستبقيها غارقة في سؤال الهوية الذي يبدو أنه لا حل له.