31 أكتوبر 2025
تسجيلكما تعلم أيها القارئ الكريم، ويعلم ذاك وتلك وكل الناس، أنه ما أن يبدأ شيء بالعمل أو الحركة أو الدوران أو الحياة حتى يكون العد التنازلي لنهاية كل تلك العمليات قد بدأ على الفور، بالأمس القريب كنا نودع عام 2017 ونرحب بالذي يليه، ثم في زحمة الحياة، وجدنا أنفسنا مرة أخرى نودع الذي رحبنا بمقدمه، ونرحب بعامنا هذا الوليد 2019، وهكذا نعيش في دوران حياتي مستمر لا يتوقف إلى أن يشاء الله لهذه الحياة أن تتوقف عن الدوران. هذه ليست مقدمة فلسفية، لكنها حقيقة واضحة جلية، خلاصتها أنه لا خلود في هذه الحياة.. ولا أظن أحداً من أولي الألباب والأفهام يقول بغير هذا، إن كل شيء إلى زوال لا محالة، والمسألة ليست أكثر من مجرد وقت يمضي فقط كما أسلفنا، وأمام هذه الحقيقة، كلنا يتفق أنه ليس علينا الوقوف والتساؤل طويلاً بقول: لماذا لا يخلد ويستمر شيء حي أو غير حي في هذه الدنيا إلى ما لا نهاية؟ لأن الإجابة واضحة وباختصار شديد، هي أن الدنيا ليست مكاناً لحقيقة الخلود، وإنما الخلود حقيقة من حقائق حياة أخرى، لا ندري عن كنهها ولا طبيعتها الشيء الكثير، سوى أنها واقعة وقادمة لا شك في ذلك مطلقاً. هكذا الحياة تسير إذن، وهكذا حقيقتها.. اليوم قد تكون في موقع مهم رفيع ومكانة عالية يشير إليك الجميع بالبنان، ثم فجأة تجد نفسك خارج دائرة الاهتمام تلك لأي سبب من الأسباب، ولا تجد من كانوا يشيرون إليك قبل أيام ! فإن حدث ذلك لك أو لغيرك، يجب ألا تجزع وتكتئب، لأن سنّة أو قانون الزوال وعدم الخلود قد حان وقت تفعيله معك في الأمر الذي كنت عليه.. وقس على هذا كل العمليات الحيوية وغير الحيوية التي تقوم بها أو تراها حولك. إذن مثلما أن الأعوام تتلاحق، تبدأ وتنتهي في فترة محدودة مقدّرة، فكذلك نحن البشر وكل ما يرتبط بنا.. وهو ما يدعونا لعدم البقاء فرحين على الدوام بأمر دنيوي بأكثر مما يستحق، فلا المناصب ولا الكراسي ولا الزينات من كل ما يسعد الإنسان، ولا البشر كذلك يبقون، ومثل ذلك من الأحزان والمآسي والكوارث، وكل ما يغيظ ويحزن الإنسان لأجله.. كلهم إلى زوال بصورة أو أخرى. الحياة لا تقف لأحد، هي مستمرة بإذن الله.. لكن الذي يقف هو الإنسان وما يرتبط به من أحياء وجمادات وعلاقات وغيرها. وما لم يستثمر هذا الإنسان حياته القصيرة في كل ما يعود عليه بالنفع في دنياه وكذلك آخرته، فإن الخاسر هو نفسه وليست الحياة. وضمن هذا السياق، أجد نفسي مدفوعاً للقول بأهمية استثمار الإنسان لحاضره، دون كثير التفات أو حزن على ما مضى، أو حرص وقلق غير مطلوبين على مستقبل لم يصل بعد.. وهذا ليس بقول جديد أنفرد به، إنما هو من باب الذكرى التي تنفع المؤمنين. فاحرص إذن أن تعيش لحظتك وحاضرك، فإن يومك هذا هو فعل حاضر جار تعيش تفاصيله، ويمكنك السيطرة عليه لحين من الدهر لا يطول، وعندك من الوقت ما يكفي لتعيشه بكل لحظاته، تستثمره وتستمتع به وتعيش حياتك كما أمرك ربك. لكن لماذا أهتم بالحاضر وليس الماضي أو المستقبل؟ لا أدعو إلى تجاهل الماضي أو عدم الاكتراث بالمستقبل.. لا، ليس هذا ما أروم إليه في هذا الحديث، ولكن كما تعلم أيها القارئ الكريم، الماضي ولى وراح ولن يرجع، ولن يفيدك حزن عليه.. وبالمثل لن يفيدك انتظار قلق متوتر على غد أو مستقبل مجهول، القريب منه أو البعيد، لأنه ما زال في علم الغيب لم تجر عليه مقادير الحاضر، فلعلك لا تدركه كما قال الحسن البصري: إنما الدنيا ثلاثة أيام، مضى أمس بما فيه، وغداً لعلك لا تدركه، فانظر ما أنت عامل في يومك. إن الأمس الذي كنت تعايشه بكل لحظاته، فات وفرط وأصبح ماضياً لا يمكنه أبداً الرجوع، فإن أحسنت فيه واستثمرت لحظاته، كنت أنت المستفيد، وإن كنت قد أسأت وأضعت أوقاته، فأنت المتضرر الأول لا أحد غيرك، وهذا ما يدعوك للاتعاظ من الماضي في إدارة الحاضر والتخطيط الواعي للمستقبل. إن الأيام الثلاثة، اليوم والأمس والغد، كما جاء عن بعض الحكماء، هي على النحو الآتي: الأمس هو بمثابة صديق مؤدب، أبقى لك عظة وترك فيك عبرة. اليوم هو صديقٌ مودع، أتاك ولم تأته، كان عنك طويل الغيبة، وهو عنك سريع الظعن، أي سريع الارتحال. فخذ لنفسك فيه. أما الغـد، فلا تدري ما يُحدث الله فيه، أمن أهله أنت أم لا.. فماذا أنت فاعلٌ بعد أن اتضحت لك الرؤية مع أيام الدنيا الثلاثة الفانية؟ زبدة هذا الحديث أو خلاصة ما يمكن الاستفادة مما مضى من حديث، ألا تحزن على ما فات، ولا تحمل هم ما هو آت. عش يومك واحمد ربك أن أعطاك من العمر يوماً جديداً تعيشه، فانظر ما أنت عامل فيه، كما قال الحسن البصري رحمه الله.3 [email protected]