14 سبتمبر 2025
تسجيليأتي السابع والعشرون من شهر ديسمبر من كل سنة ليذكر الشعب الجزائري بالرجل الذي وهب حياته لبناء دولة خرجت من حرب ضروس ضد استعمار غاشم نشر الجهل والحرمان، رجل كان شغله الشاغل هو استدراك ما فات البلاد من علم وتكنولوجيا وديمقراطية وتشييد وبناء مادي ومعنوي وبشري للحاق بركب الحضارة والتقدم والرفاهية والتطور، فالذاكرة الجماعية الجزائرية مازالت تتذكر أعمال الرجل والشعب الجزائري اليوم مازال يحلم ببروز شخصية سياسية من حجم بومدين حيث إنه بأشد الحاجة إلى شخصية سياسية كارزمية قوية تخرج البلاد من أزمة الفساد والرداءة والمحسوبية وتبذير المال العام.. إلخ.الرئيس هواري بومدين الذي حكم الجزائر من يونيو 1965م إلى ديسمبر 1978م يعتبر من أولئك الذين قدموا الكثير للجزائر وللشعب الجزائري ومن أولئك الزعماء الذين تركوا بصماتهم في التاريخ سواء على مستوى دولهم أو قاراتهم أو على مستوى العالم العربي ودول العالم الثالث أو حركة عدم الانحياز أو الحركة الأفروآسيوية، بومدين من الرؤساء أو الشخصيات السياسية التي هّمشها التاريخ محليا ودوليا ويمكننا القول إن الرئيس بومدين احترمه العالم قبل أن تعطيه حقه وسائل إعلام بلاده والمسؤولون الجزائريون أنفسهم. ففي عهد الرئيس الشاذلي بن جديد الذي جاء بعد وفاته مباشرة أصبح الرئيس بومدين من المحرمات والممنوعات في وسائل الإعلام الجزائرية وفي الملتقيات والندوات والمناسبات وكأنه لم يكن وهذه الظاهرة ليست غريبة على الجزائر حيث إن زعماء مثل "فرحات عباس" و"مصالي الحاج" و"عبان رمضان" لقوا نفس الجزاء قبل بومدين. ويمكن القول الشيء نفسه بالنسبة للرؤساء الآخرين الذين تداولوا على السلطة وتعاملهم مع تاريخ شخصية عظمى في ذاكرة الجزائريين وزعماء العالم الثالث. فالرئيس الحالي للجزائر الذي ذرف الدموع وهو يقرأ رسالة تأبين الرئيس بومدين في مقبرة العالية نسي بومدين وهو يحكم الجزائر منذ 1999 فلم يفكر مثلا في إنتاج فيلم عن المرحوم أو تنظيم مؤتمر دولي يعيد لذاكرة الشباب الجزائري اليوم صورة بومدين، هذا الشباب الذي لا يعرف شيئا عن الراحل بومدين.لم يكن الرئيس بومدين معصوما من الخطأ ولم ينجح في كل مشاريعه وبرامجه، فكانت له إيجابياته وسلبياته ونقاط ضعفه وقوته، فبومدين عايش وحكم الجزائر في "موضة" الاشتراكية والحركات التحررية وحركة عدم الانحياز والحركة الأفروآسيوية، كما أنه لا يجب علينا أن ننسى أن بومدين درس في الأزهر في الخمسينيات وعايش الضباط الأحرار في مصر وتدرب مع المناضلين المصريين، فكل هذه العوامل تركت بصماتها على فكر وأيديولوجية بومدين أيام حكمه للجزائر. بومدين الرئيس الذي مات ولم يترك الملايين أو المليارات من الدولارات في حساباته، مات من أجل الفلاح الجزائري، مات من أجل أولئك الذين حرمهم الاستعمار الفرنسي من العيش الشريف ومن الحياة الكريمة. بومدين ذلك الرئيس الذي لم ينس كل من وقف إلى جانب الجزائر في محنتها ضد الاستعمار الفرنسي فوقف بجانب الدول العربية ووقف بجانب الحركات التحررية في إفريقيا وآسيا، بومدين الذي ناضل من أجل الحق في القارات الثلاث لتحرير الشعوب سياسيا وثقافيا واقتصاديا وأيديولوجيا. بسبب الفقر والجهل والحرمان انتهج الرئيس الراحل سياسة شنها على ثلاث جبهات: الزراعة والصناعة والثقافة وسمى هذه الجبهات بالثورات الثلاث: فعلى المستوى الزراعي أممت الأراضي الفلاحية ووزعت من جديد على الفلاحين في إطار سياسة التسيير الذاتي وهذا لمحاربة الإقطاعية ونظام "الخماسة" الذي كان سائدا في المجتمع الجزائري، وعلى المستوى الاقتصادي آمن الرئيس بومدين بمبدأ "الصناعات المصنّعة" والتركيز على الصناعات الثقيلة التي تغدي وتنمي الصناعات الخفيفة والصناعات التحويلية وباقي الصناعات الأخرى.أما فيما يتعلق بالجانب الثقافي فقد آمن الرئيس بومدين بمبدأ ديمقراطية التعليم وهذا بتوفيره مجانا لجميع أبناء المجتمع من السنة الأولى إلى أعلى درجة علمية ممكنة والتركيز على أن ابن الفلاح بإمكانه التمدرس والتفوق والاستمتاع بمقعد في الجامعة وبمنحة إلى أعتق وأشهر الجامعات في العالم إذا كان من المتفوقين، كما كان يؤمن بثقافة جماهيرية شعبية ملتزمة تخدم الفقير والمسكين والمحروم والمظلوم. كان بومدين يؤمن بأن اقتصاد البلد لا يكتب له النجاح إذا لم يكن هناك تكامل بين قطاعاته المختلفة وكان يؤمن أن الزراعة يجب أن تغذي الصناعة والعكس صحيح وأن الصناعة الثقيلة تغذي الخفيفة وكل هذه الآلية يجب أن تتم وفق خصائص كل منطقة من مناطق الجزائر التي تزخر أراضيها بخيرات ومواد أولية معتبرة. وكان بومدين يؤمن كذلك بأن البلد الذي لا يستطيع تأمين غذائه لا يعتبر مستقل. ففي عهد بومدين شهدت الجزائر شبكة من المصانع والمعامل انتشرت من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب احتراما لمبدأ التوازن الجهوي والتكامل الاقتصادي. كما كان يعني التكامل الاقتصادي لبومدين الاستقلال الاقتصادي، والاستقلال السياسي دون استقلال اقتصادي لا يعني شيئا. وأهم إنجاز تاريخي قام به بومدين هو تأميم المحروقات وتحدي الفرنسيين الذين كانوا يسيطرون على استغلال آبار البترول والغاز في الصحراء الجزائرية الكبرى، فالفرنسيون لم يصدقوا أعينهم عندما استغنى عنهم بومدين وبمساعدة بعض الدول الصديقة واصلت الجزائر استغلالها لمحروقاتها بكامل سيادتها. وكان هذا الإنجاز درسا للدول العظمى وللشركات المتعددة الجنسيات التي كانت تنهب خيرات دول العالم الثالث بأبخس الأثمان الأمر الذي دفع الرئيس بومدين وعلى منبر الأمم المتحدة بنيويورك أن يطالب بنظام اقتصادي عالمي جديد وأن يكشف للعالم وبالأرقام أن النظام النقدي العالمي والتبادل العالمي والعلاقات الاقتصادية الدولية تعاني كلها من عدم التوازن والتكافؤ.هكذا إذن كانت للرجل رؤية وإستراتيجية وكان يحلم دائما بمناصرة الفقراء والمساكين والمستضعفين سواء على مستوى بلده الجزائر أو على المستوى القاري أو العربي أو العالمي، ذلك الرجل الذي وقف على منبر الأمم المتحدة سنة 1974م وطالب بنظام اقتصادي عالمي جديد يضع حدا للاستغلال والبطش والابتزاز الذي تمارسه الدول العظمى على حساب الدول المستضعفة والفقيرة والمغلوب على أمرها بسبب نهب وسرقة تلك الدول التي تسمى بالمتقدمة. لا ننسى كذلك أن الجزائر في عهد المرحوم بومدين لعبت دورا بارزا في حل العديد من الأزمات الشائكة والعويصة وكانت الوسيط في حل العديد من المنازعات والصراعات الإقليمية والجهوية. كيف ينسى التاريخ هواري بومدين وهو الذي تحدى فرنسا وأمّم المحروقات في 24 فبراير 1971 وهو الذي وضع مشروع بناء الألف قرية فلاحية للمزارعين الجزائريين الذين عانوا من ويل الاستعمار الفرنسي الغاشم وجردوا من أراضيهم، فالجزائر اليوم وبكل ثرواتها وخيراتها وأموالها تعاني من مشاكل عويصة من أهمها سوء الإدارة وتبذير المال العالم والفساد والبيروقراطية وتدني مستوى المعيشة والخدمات.. إلخ.