17 سبتمبر 2025

تسجيل

حديث الانفصال وأحاديث التشظي والانفصام

03 يناير 2011

يشعر العرب بألم شديد مع اقتراب موعد الانفصال بين شمال السودان وجنوبه، وينبغي أن يكون واضحاً ما هو المصدر الحقيقي للألم وسببه، فالأمر ليس عاطفيا فقط، ولا يتعلق بنهاية اطمئنان "قومي" إلى وجود بلد عربي شاسع المساحة غني بالموارد الطبيعية وكان يشكل في اللاوعي العربي احتياطياً استراتيجياً لـ"الأمة"، مصدر الألم ان العلل والأمراض التي اعتملت ودفعت بجنوبيي السودان إلى نشدان الانفصال هي نفسها في البلدان التي لا يشكل الانفصال أحد خيارات شعوبها وجماعاتها. في أزمنة الاقتصاد المتأزم والثروات المبددة والعصبيات المتشنجة والسياسات المتحجرة، تبرز الحاجة إلى الحكم الرشيد كعامل حاسم في عقلنة السلطات ولجم الأهواء والأشخاص تغليباً لأولوية الصالح العام، فالحديث عن العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص عن التأهيل المهني وتنمية موارد التعليم والثقافة والطبابة وعن تطوير البنى القانونية ووسائل الإنتاج، ليس كلاما إنشائيا، وإنما هو في حد ذاته دعوة إلى العمل والانخراط في الحركة، لأن "الصالح العام"، لا يأتي من تلقائه، أو من فراغ، وإنما بمساهمة الجميع، بل يجب أن يستحق،أي خلل في المنظومة، أي إهمال أو ايثار أو شطط وفئوية، لابد أن تخلف جماعات مظلومة، منسية أو مضطهدة أحياناً، لا تلبث أن نشعر بأن ثمة تمييزاً يمارس ضدها، أو أنها مدعوة للرضوخ إلى إخضاع تتعرض له بسبب خصوصياتها الموروثة. ما يؤسف له في حال السودان، والصومال من قبله، وربما العراق واليمن من بعده، هو تلك الهشاشة التي انتابت ثقافة "الدولة للجميع"، لذا تحتم مع استشراء التهروء فيها أن تعود الجماعات إلى توقعاتها لتتمكن من العيش والبقاء، المؤسف أكثر أنها بعد تقوقعها تحاول إيلاء دول أو دويلات على النمط الساقط ذاته، أي مبنية على عقلية التسلط من دون اعتبار كبير لواجبات السلطة جنبا إلى جنب مع حقوقها، ولا حقوق لها إلا في إطار سعيها إلى إنصاف جميع رعاياها بلا تمييز أو استفتاء. لعل حالات السودان والعراق والصومال، ولا داعي لذكر سواها الآن، تذكر العالم العربي بأن دوله وشعوبه تعيد النظر، عن وعي كامل أو بدونه، في ظروف نشأتها وتكونها، ولذلك فهي كما ظهرت في أوضاع استعمارية وكان للقوى الخارجية دور أساسي في تطهيرها، تنتهز اللحظة التاريخية شبه الاستعمارية، الراهنة، لتشرع في ما تعتبره تصويبا لأوضاعها، شيء من بدايات القرن الماضي حتى منتصفه يستعاد الآن في تبرير نشوء الكيانات الجديدة، قد يعزو البعض هذه الظواهر إلى أن مرحلة الاستقلال ساهمت في توعية الجماعات بهوياتها وطموحاتها، وأيضا بمساهماتها وبما يحق لها لكن يجب ألا ينسى أبدا أن النمط الاستبدادي في الحكم كان العامل المرجح في فرز الجماعات، ويتحمل مسؤولية تفسخ المجتمع وعدم ارتباط جميع أبنائه بوطنهم، وبالتالي نفور البعض منهم ونقمته على استغلال مجحف لموارده، كثير من الدراسات والأبحاث أحال تلك المسؤولية بمجملها على القوة المستعمرة السابقة التي حرصت على تنصيب أنظمة تؤمن لها مصالحها وتدين لها بالاستمرار في السلطة، ثمة جانب حق في ذلك، ولعله مبرر ومفهوم في المراحل الأولى، اما ان تستمر الحال على ما هي عليه جيلاً بعد جيل، ورغم تغير الظروف وتقلب العهود وتراكم الوعي والمعاناة، فهذا مما يستعصي على أي فهم وإدراك لأبسط مغازي الاستقلال وبناء الدول. ولعل هذه الحالات، وغيرها مما لا ينذر بالضرورة الآن بوجود بوادر انفصام أو توق إلى انفصال، تذكر أيضا خصوصا بأن استشراف تشظي الدول العربية لا يبدأ الآن بمناسبة الاستفتاء السوداني على تقرير المصير، وإنما بدأ قبل عقود، بعد مرور عشرين إلى ثلاثين سنة من حقبة الاستقلالات تحديدا في السبعينيات فهذا الزمن كان كافيا لاستبيان الوجهات التي اتخذتها الأنظمة في تدبير شؤونها، ولرؤية الثغرات والتمزقات المحتملة، وقد ذهب بعض مراكز البحث في الولايات المتحدة وأوروبا إلى رسم لسيناريوهات التقسيم وخرائطه، بل عمدت أحيانا إلى تصحيح توقعاتها وفقا للمتغيرات، وعندما اندلعت الحرب الأهلية منتصف سبعينيات القرن الماضي في لبنان، لم يعرف غالبية اللبنانيين لماذا وكيف طرح فريق منهم خيار التقسيم، وقد ساهم القتال في إقامة الجبهات وخطوط التماس التي راحت تتكرس كأنها حدود بين الكانتونات المرتقبة، ثم ان التهجر والفرز السكاني أديا إلى ما يشبه "التطهير الطائفي" للمناطق، وبعد غزو العراق واحتلاله، طرح مشروع "الشرق الأوسط الكبير"، وخرجت الخرائط من مكامنها ثانية لتشرح ما هو معني فعلا، ولم يتردد عدد من المسؤولين الأمريكيين في التصريح بأن الهدف هو إعادة رسم خريطة الشرق ما تمكن ترجمته بأن حدوداً ستتعدل وبلدانا ستخسر وحدة أراضيها الحالية. منذ احتلالها العراق لم تكن واشنطن حريصة، في مجمل مواقفها السياسية، على تأكيد التزامها وحدة أراضيه ودولته، ولا يزال كثيرون يذكرون الاستهجان الذي قوبل به موقف لجوزف بايرن، النائب الحالي للرئيس الأمريكي قال فيه "إن تقسيم العراق هو أحد الحلول لمعضلات الحكم والأمن وللصعوبات التي تواجه إنشاء نظام جديد على أنقاض النظام السابق، واقع الأمر أن العراقيين المعارضين الذين وقفوا إلى جانب الغزو الأمريكي ناقشوا احتمالات ما بعد الاحتلال وتوصلوا مسبقا إلى قناعات بأن البلد لن يبقى كما كان، وإذ توصلوا إلى تفاهم مبدئي على "الفيدرالية"، فقد تبدى أن هذا مجرد اسم تقني لــ"التقسيم"، وبناء على ذلك أيدوا إلغاء الدولة السابقة بمؤسساتها وجيشها وشرطتها ليبدأوا عمليا من نقطة الصفر". حديث الانفصال مع بداية العقد الثاني للقرن الواحد والعشرين، ربما يدشن مرحلة عربية جديدة، لكنه يدق ناقوس إنذار أخير بأن أساليب الحكم والسياسة وإدارة شؤون الناس لا يمكن أن تستمر على حالها من دون أن تفضي إلى نتائج كارثية، فعدا السودان والعراق واليمن والصومال، هناك بضع حالات أخرى تعتمل والأصعب من الانفصال أن تكون هناك حالات احتقان داخلي محكومة بأن تعالج داخلياً قبل أن تنفذ إليها القوى الخارجية لتستغلها.