15 سبتمبر 2025

تسجيل

أين نحن من محكمة الضمير؟

03 يناير 2011

هل مضى العام الميلادي دون رجعة بكل أو بجل ما يتمناه الإنسان ليصل إلى شاطئ السعادة وبر الأمان ويرى العالم من حوله وقد رفرفت عليه تلك الراية ليكون أليق وأوفق لأن يحتفل مع البشر سروراً وابتهاجاً يجني الثمار، وعندها لا يكون مسرفاً معهم إذا نثر مليارات الدولارات وفرح لإذعان الإعلام الخاص والعام لأمره وجيّشت جيوش في ليلة الظلام ليسفر من رحمها صباح الحرية والعدالة والسلام، كما انبثق ضوء العام الماضي الذي يراه هذا الإنسان، وبالتالي يرتاح ضميره وضمائرهم فيصدق أنهم سعداء إذ لا سعادة تعادل راحة الضمير كما قال ابن باجة رحمه الله.. هل الأمر هكذا أم أننا أصبحنا نخادع أنفسنا ونغني ونرقص وننافق ونكذب ونعوض نقصنا بالاحتفال بالأوهام ونحن نحس بذلك تماماً لأن شواهد العام مبنى ومعنى أكبر دليل على هذا الكلام، نعم ثمة جوانب مضيئة لا ينكرها إلا مكابر وهي وحدها التي تستحق الإجلال والاحترام والاحتفال بها دوماً لا في ليلة واحدة فقط، وهذا ما جاء به المسيح عيسى بن مريم عليه السلام وعززه ونشره رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم ليهتم به العالم أجمع، إذ ان مغزى رسالته أن يبقى رحمة للعالمين وقد سجلنا ذلك في ذكرى هجرته صلى الله عليه وسلم في عامها القمري والقمر ناصع يستعصي على التزييف والتدجيل دوماً، إننا نقول هذا ونحن أمام حساب العام والأيام ولدى محكمة الضمير التي تدخل نفوسنا وتبقى يقظة تحكم بالعدل على الدوام لا تحابي أحداً ولا تنتصر لغيره، إن الضمير فيها هو الوجدان الذي يتمتع بالقدرة على التمييز بين الحق والباطل والخير والشر والطيب والخبيث وهو الذي يعرفنا حاله بأنه ليس شأناً ذاتياً محضاً وإنما هو جملة المعايير والتوجيهات التي تعني التربية الخلقية أو هو – كما يقول الفيلسوف توما الأكويني: تعقيب العقل على ما يصدر منا من أفعال في كل وقت إذ العقل هو أصل عتيد للطبع والشرع بمعنى أنه نبراسهما والشرع عاصم للعقل على كل حال، والضمير كذلك عند أرباب العلوم الإنسانية وظيفة من وظائف الدماغ تقوم على الإيثار المتبادل بالسلوك الموجه لكل فرد أن يقوم على رعاية الآخرين ويعتبر هذا الضمير في الإسلام نعمة من الله لبناء كل ما هو إيجابي في الحياة إذ هو ربان السفينة والقائد والمشرف على مسارها بل هو المرآة التي تعكس السلوكيات وهو المعيار والمقياس الذي بميزانه الدقيق يحكم السيطرة على الذات والشخصية فيعرف نضوجها من عدمه فيمدحها على المحاسن ويقدحها على المساوئ وهو المراقب الأمين والدليل الأصيل بل والقاضي المقرر للتبرئة أو الاتهام والتأنيب، ولا يستطيع إنسان أن يهرب من محكمته لأنه يقف سداً منيعاً أمامه ينهاه عن خرق الأصول الأخلاقية ويأمره بالتربية الهادفة التي ترتقي به في جميع مراحل الحياة إلا أنه في بعض مراحلها قد يصاب ضميره بالتلوث، كما تصاب البيئة ويغشاه سبات رقيق أو عميق فيقع في صغائر المقابح أو كبائرها وتلك آفات خطيرة قد تأتي على مقاتله فينسى مفهوم الحق بل لا يعود مكترثاً بالأخطاء ويتبلد شعوره حتى لا يحس بقتل الآخرين بل قد يتمتع بذلك فتقتل فطرته ويختفي ضميره ويسقط سقوطاً ذريعاً، ولابد في هذه الحال من التصدي لمرضه والبداية بالعلاج من هذا الفساد، إن أراد ألا يسيطر الران على قلبه ومن هنا يعتبر الحفاظ على الضمير حفاظاً على الأمانة التي ناطها الله بالإنسان (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً)، "الأحزاب: 72". فإذا ما استطاع أن يحاور نفسه حواراً داخلياً واعياً وكان دائم اليقظة، مراعياً جانب الله في التوجه سائساً نفسه بحسن التدبير مبتعداً عن المزالق حاملاً صفة النفس اللوامة التي تقف عند المحاسبة لها بدقة حتى تملك الصلاح، داعية غيرها للتأثر بالهداية لتصل إلى مرتبة الإصلاح كان بذلك بعيداً عن الغفلة التي اعتبرها ابن تيمية رحمه الله أصل الشر، وبالتالي يكون قد حمل ضميراً حياً نقياً نظيفاً شريفاً عفيفاً وإذا كان هذا الضمير لا يهدأ ولا ينام فإن صاحبه ينام على وسادة ناعمة، كما في المثل الفرنسي أو يكون محروساً به من الله إذ هو عين الله على الأرض كما قال شكسبير ولأن نفس الإنسان هي أهم ما يهتم به فقد أفنى الأنبياء حياتهم في خدمتها وكانت بعد التوحيد موضوعهم الوحيد كما نقل د. سعيد إسماعيل علي في كتابه "الحوار منهجاً وثقافة ص 107" ولعل ما يصدق على هذه النفس فردياً يصدق على الأسرة والمجتمع والدولة والحكومة تماماً فإذا ما كانت ضمائرها ذكية تفرق بين الحق والباطل لأنها هي أصوات الحق، كما قال مينا ندر فإن الأمة تعيش حياة مطمئنة عادلة يأخذ فيها الضعيف حقه كما يناله القوي وعندها تعرف حقوق الإنسان رسالتها وهدفها، وإن المتأمل فيما جرى العام الماضي إقليمياً ودولياً وعلى مختلف الأصعدة في الحياة يرى ظلماً لا نظير له، بحيث يكون مطمئناً إذا قال: مات الضمير، فهذه قضايانا وأولها فلسطين مازالت على مذبح الجزارين من ذوي القربى والأجانب من صهاينة وصليبيين، وإذا نظرنا ببصر حديد كما يقول محمد الغزالي في قذائف الحق "ص 272" عن محنة الضمير هناك مذكراً بمقال نشرته مجلة تابلت الانجليزية الكاثوليكية للكاتب ف.س اندرسون في 26/10/1957 فحواه أن الكاثوليك يقولون لليهود: إننا احتللنا فلسطين قبلكم وبقينا فيها سنين عددا، ثم استطاع المسلمون إخراجنا وتهديم مملكة بيت المقدس وذلك لأغلاط ارتكبناها وها نحن أولاء نشرح لكم تلك الأغلاط القديمة حتى لا تقعوا فيها وأفيدوا من تجربتنا حتى تبقى لكم فلسطين ولا يعود أهلها إليها. نعم إنه الحق الدفين القديم والحديث وذلك سر قوله تعالى (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم)، "البقرة: 120". ثم تأتينا قضية العراق الجريح الذي احتله أولئك الصليبيون وظاهرهم اليهود على ذلك بغير أي حق، فلحساب من قتل فيه أكثر من مليون إنسان ناهيك عن الجرحى والثكالى والمشردين والدمار الرهيب الذي نقض صروحه من أساسها ونهب آثارها وغلب في البلاد فريقا على فريق لينتصر الهوى على الوطن والحرية، ثم انتقل إلى أفغانستان لتقتلك الدماء والأشلاء باسم محاربة الإرهاب ولترى جنود الباطل من كل مكان تزرع الخوف وتقتل الأبرياء حتى أهل الأعراس والأفراح دون أي وازع من ضمير، ثم انتقل إلى السودان لترى مؤامرة التقسيم والاحتلال الحقيقي للغرب وأمريكا وإسرائيل، فانفصال الجنوب إنما يعني باختصار إنشاء كيان صهيوني جديد في إفريقيا وليس في السودان فقط وتلك سنة سيئة ستطول بلادا أخرى بلاشك، ثم انتقل إلى الصومال لترى الفتنة بين الإخوة الأعداء وقد أهلكت الحرث والنسل بلا حق واضح ولا دليل أصيل فأين تغليب المصلحة العليا على الدنيا وأين الرحمة بالمواطنين؟ وانظر إلى كشمير وإغراقها في المظالم والدماء والفقر والتمييز لترى كذب الديمقراطية هناك ممن يتشدقون بها، واجلس بعض الوقت مع تصريحات أوباما الخاصة والعامة لترى أن ما وعد به العالم الإسلامي لم يكن صحيحا وأن غالب الشعارات لا حقيقة لها عنده وعليه وعلى أمثاله يصدق قول أبي تمام: إذا قلت في شيء نعم فأتمه فإن نعم دين على الحر واجب وإلا فقل لا تسترح وترح بها لئلا يقول الناس أنك كاذب وذلك على المستوى السياسي بل والاقتصادي إذ لم يفعل شيئا إزاء الأزمة المالية العالمية، وإذا تأملت من نواح أخرى الموقف من الكوارث الطبيعية وأضخمها فيضانات باكستان لم تر هذا العالم ذا ضمير حي أبدا، وانظر إلى فداحة عمليات التنصير في الأقليات الإسلامية والبلاد الفقيرة وإلى تخريب الأخلاق المتعمد وفرز الميزانيات الهائلة لدعمه والهجوم على الأسرة المسلمة في حجاب المرأة ونقابها ومساجد المسلمين والاعتداء على مقدساتهم، إنك بذلك ستجد الغريب عنا معتديا والقريب منا مجرماً بحق الشعوب، إذ هم بين أحمق ومجنون في قيادة أغرار لا خبرة لهم وهم ينالون منا أكثر من العدو وكل طاغية منهم كما يقول د. مصطفى السباعي رحمه الله في كتابه "هكذا علمتني الحياة ص 310"، إنما يتراوح الغرور الذي يلد ثلاثة أولاد الحمق والحقد والجريمة ويسمى ديكتاتورية الحكم ديمقراطية ويحتكر السلطة له ولحزبه وعائلته أما أتباعه فإنهم يدافعون عنه حفظا لحياتهم لا لحياته، إنه موقف عجز لا موقف ولا يقظة للضمير فيه وكلما نحف ضمير المنحرف سمن جسمه، أما السياسة عند معظم حكامنا فهي سمكة تأكل من يصغر عنها فأي احتفالات نقوم بها ونحن في محكمة الضمير متهمون فمتى نقوم بواجبات الضمير ليرتاح ونحتفل حقاً؟