13 سبتمبر 2025
تسجيللم أشاهد مسلسل قيامة أرطغرل بشكل منتظم منذ أن ظهر، وإنما مشاهداتي كانت لحلقات متفرقة وفي أوقات متنوعة، وبالتالي لم أربط المشاهد والأفكار الكثيرة بالمسلسل إلا مؤخراً، حين بدأت أتابعه بشكل منتظم، حلقة بعد أخرى. وعلى رغم أنني ما زلت بالموسم الأول، وبقيت حلقات كثيرة، إلا أن كمية الأفكار والإيحاءات التي وجدتها كثيرة، تصلح كل واحدة منها للكتابة عنها، ومقال اليوم من بعض تلك الإيحاءات والأفكار. أكثر ما أثار انتباهي في المسلسل، هو كيفية تهاوي أو انهيار الدول والممالك بسبب فصول متعددة من الصراع الذي ينشأ في مرحلة معينة بين الخير والشر، والذي يكون عادة على شكل خيانات ومؤامرات ودسائس تجري في الأوساط الحاكمة ومن يدور في فلكهم، بغض النظر عن حجم ومستوى كل جهة حاكمة، ومستوى من تحكمهم. فمشاهد الخيانة والمؤامرات، التي كانت في القصور الرئاسية في إمارة حلب ودولة السلاجقة، كانت بالمثل في مخيم البدو الرحّل، قبيلة أرطغرل، ما يفيد أن المسألة لا تتعلق بالمكان أو الزمان، وإنما بالنفوس البشرية، ولا علاقة لها بحجم التجمعات أو تعقيداتها، سواء كانت على شكل قرية صغيرة أم دولة كبيرة، وصولاً إلى الإمبراطوريات العظيمة. وبسبب سوء وخبث بعض النفوس البشرية، التي تجدها تتكرر في كل زمان وكل مكان، يستمر صراع الحق والباطل، وتدافع الخير والشر. لاحظ أن الصراعات منذ قابيل وهابيل والتي ما زالت إلى اليوم، بل وإلى الغد، تتطور وتتفاقم وتشتد حيناً بعد آخر في أي تجمع بشري، من أبسطها إلى أعقدها. وإن حاولنا البحث عن أسبابها ودوافعها، لوجدناها غالباً تدور حول محور واحد لا ثاني له هو المال بجميع أشكاله. صراعات النفوذ ابحث وتعمق في كتب التاريخ العامرة بالأحداث والصراعات والأزمات والمعارك، ستجد أن صراعاً هنا أو صراعاً هناك، وستجد السبب الرئيسي كان حول المال، الذي يكون على شكل رئاسة ونفوذ، وصلاحيات، ووجاهة، وملحقاتها، والطمع والأنانية هما السبب. حين تحتل دولة كبيرة أخرى صغيرة، فلأجل المال. حين يأتي الاحتلال على شكل حماية مصالح أو أمن أو غيرها من مبررات يطرحها، فإنما لأجل المال، لأن وراء هذا الاحتلال، هناك من يستفيد من حروبه التي ستقع، ساسة وأصحاب شركات سلاح وأدوية وأغذية وغيرهم كثير كثير. كلهم يعملون ويتخادمون لهدف واحد هو زيادة منافعهم المتنوعة، والأمثلة كثيرة لا يتسع المقام لسردها والحديث عنها. ما انتشرت الحروب والصراعات بين البشر، سواء على شكل أفراد أو جماعات وأحزاب، وصولاً إلى الدول والممالك، إلا نتيجة مرض الطمع فيما عند الغير، أو حب تملك الآخرين، أو أنانية عميقة لا تحب الخير للغير. ولأن البشر ما زال كثيرٌ منهم ينشأ على مثل تلك الأمراض، تجد الأزمات والمشكلات والحروب والصراعات مستمرة إلى ما شاء الله لها أن تستمر. الترف سبب آخر مهلك المترفون في كل أمة -كما جاء في ظلال القرآن لسيد قطب رحمه الله- هم طبقة الكبراء الناعمين الذين يجدون المال ويجدون الخدم ويجدون الراحة، فينعمون بالدعة وبالراحة وبالسيادة، حتى تترهل نفوسهم وتأسن، وترتع في الفسق والمجانة، وتستهتر بالقيم والمقدسات والكرامات، وتلغو في الأعراض والحرمات. في المسلسل مدار الحديث، ظهر أمير حلب على شكل حاكم ماجن يتبع شهواته، حتى سهلت على المتنفذين في بلاطه، التحكم به وبقراراته، التي كانت تتصادم أو تسير عكس مصالح إمارته وشعبه. وما كان السبب إلا انغماسه في ترف من العيش عميق. إن ظهر ترف وإسراف في أجهزة دولة ما، فهذا يعني استئثار فئة قليلة بغالبية الامتيازات على حساب فئات عديدة أخرى في المجتمع. هذا الاستئثار دافع أكيد إلى نشوء مرض آخر في الدولة هو الحقد أو الكراهية في نفوس الفئات المحرومة، على الفئة المترفة المسيطرة، والمستأثرة بالخيرات وما شابه. الترف مرض مهلك أيضاً لأنه يتضمن مرضاً عضالاً ينخر في جسم الدولة وهو الظلم، الذي عادة يكون مصاحباً للترف. فأينما وجدت مترفين، وجدت ظلماً يصدر عنهم بصورة أو بأخرى. الترف كذلك يؤدي إلى الإسراف. هذا مرض مؤذٍ أيضاً، بل هو عامل أساسي في دخول البلاد أجواء الفقر، الذي إن استوطن بلداً طارت عنه القيم، وحلت الفواحش، ما ظهر منها وما بطن.. المترفون فئة تتولى إهلاك الدولة -دون قصد بالطبع- لكن سلوكياتهم وأفعالهم هي السبب. إن انتشار الفساد والظلم والعدوان في أي بلد، يدفع بعد حين من الدهر، طال أم قصر، إلى أن تصل فئة المترفين –باعتبار الترابط الوثيق بين المال والمناصب- إلى مراكز القرار والتحكم في شؤون البلاد والعباد، لتتولى تلك الفئة بعد ذلك –وهم في غياب تام عن الوعي– السير في المشهد الأخير للبلاد، مشهد الهلاك، كي تجري بالتالي عليهم السنّة الإلهية في هلاك أو زوال الأمم. مفاتيح الدولة عند غير أهلها من مسببات زوال أو ضعف الدول والممالك والإمبراطوريات، أن يتنفذ داخل أجهزة الحكم ومفاصل البلاد الرئيسية، من هم ليسوا من ملتها، الذين يرون مصالح الدولة آخر ما يشغلهم. ذلك أن هدفهم تحقيق مصالهم الذاتية أولاً ومصالح من يخدمون، سواء كانت الجهات المخدومة، دولاً أم مؤسسات عابرة للقارات أم ما شابهها من كيانات. إمارة حلب كانت مبتلية بتلك النوعية من المسؤولين، الذين تغلغلوا في مفاصلها، وصارت الكلمة العليا عندهم. والأسوأ من ذلك أنهم كانوا من غير أهلها ولا من ملتها أيضاً. ها هنا يحضرني مشهد توبيخ الفاروق عمر بن الخطاب –رضي الله عنه– لأحد ولاته وهو أبو موسى الأشعري على اتخاذ كاتب نصراني، حين قال له: إن لي كاتباً نصرانياً، قال: مالك؟ قاتلك الله. أما سمعت الله يقول: (يا أيها الذين آمنوا، لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء... ) ألا اتخذت حنيفياً؟ قلتُ: يا أمير المؤمنين: لي كتابته وله دينه. قال: لا أُكرمهم إذ أهانهم الله، ولا أعزهم إذ أذلهم الله، ولا أُدنيهم إذ أقصاهم الله. وقال أيضاً: لا تؤمِّنوهم وقد خوّنهم الله، ولا تُقرِّبوهم وقد أبعدهم الله، ولا تُعزُّوهم وقد أذلهم الله. هكذا كان فهم الفاروق للآية وخطورة الاستعانة بمن هم على غير الملة في أمور، هي اليوم نسميها بأمن الدولة أو ما شابه من مصطلحات. وقد سار على نهجه كثير من الخلفاء من بعده، حتى اختلط الحابل بالنابل، بعد عهود من التفرقة، وصارت الممالك المسلمة تُدار أجهزتها ومفاصلها الهامة الحساسة بأيدٍ غير مسلمة، فليس غريباً إذن أن تنهار وتضعف، أو تكون تحت رحمة آخرين، لهم أجنداتهم ورؤاهم الخاصة ورؤى من يتبعون، التي دون شك تتعارض كثيراً مع رؤى وخطط الممالك أو الدول وأهلها. وتلكم كانت حالة إمارة حلب كما في المسلسل، حتى سخر الله قائداً مسلماً مخلصاً هو أرطغرل، الذي كان له ولأبنائه وأحفاده شأنٌ عظيمٌ في العالم بعد حين من الدهر. لتدور عجلة الأيام بعد ذلك ويتكرر المشهد الذي حاربه أرطغرل في حلب، ولكن هذ ه المرة في الإمبراطورية العثمانية، التي عانت كثيراً حتى انهارت، لتستمر سنّة التدافع بين الخير والشر، إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا. [email protected]