12 سبتمبر 2025

تسجيل

الاحتياطي الفيدرالي بين مطرقة التضخم وسندان الركود

02 نوفمبر 2022

من المتوقع أن يواصل الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي رفع سعر الفائدة اليوم بنسبة 0.75 %، ليكون هذا الرفع الرابع من نوعه بهذا الحجم على التوالي، والسادس خلال هذا العام، ليصبح سعر الفائدة الأساسي في نطاق 3.75 - 4% ومن المتوقع أن يواصل ذلك في بقية العام، في محاولاته الحثيثة لكبح جماح التضخم الذي أوشك أن ينفلت من عقاله، عند 8.2 % سبتمبر الماضي. هدف البنوك المركزية ضبط التضخم وتتفق معظم البنوك المركزية العالمية على استهداف التضخم، لما لذلك من دور كبير في تعزيز الاستقرار الاقتصادي، وبالتالي النمو الاقتصادي، والاستقرار والرفاة الاجتماعي. أما الاحتياطي الفيدرالي فهو يحاول الموازنة بين استهداف التضخم والتوظيف. وبما أن معدلات البطالة منخفضة عند 3.6 % في سبتمر الماضي، فإن ذلك يتيح له التركيز على هدف استقرار الأسعار. وقد ارتفعت معدلات التصخم كذلك في منطقة اليورو لأعلى مستوى منذ إطلاق اليورو عند 10.7 % في شهر أكتوبر، و8.8 %، في بريطانيا في سبتمبر على أساس سنوي، مدفوعا بشكل أساسي بتضخم أسعار الطاقة والغذاء، وقد رفع المركزي الأوروبي والبريطاني أسعار الفائدة بأعلى معدلات هي الأخرى منذ فترة طويلة، وستواصل ذلك مستقبلا. أما في أمريكا فقد وصل معدل التضخم لأعلى مستوى له في أربعة عقود عند 8.2 %. وقد تضافرت عدة عوامل في ذلك، نتيجة صدمة إيجابية على جانب الطلب (رفع)، قابلتها صدمة سلبية على جانب العرض (خفض) أدت إلى ارتفاع معدلات تضخم، قد يصحبها انكماش لاحقاً، فيصبح ركودا تضخميا، أي انكماشا أو ركودا مصحوبا بتضخم، وهو من الحالات النادرة، إذ عادة ما يصاحب التضخم النمو الاقتصادي القوي، وليس العكس، كما حدث في قطر خلال الطفرة التي سبقت انفحار الأزمة المالية العالمية، فقد كانت قطر الأسرع نموا في العالم خلال تلك الفترة، ولكن كان مصحوبا بمعدل تضخم مرتفع. مصادر التضخم أما مصادر التضخم من جانب العرض فهي نتيجة لارتفاع أسعار الطاقة، والغذاء، والأسمدة (بسبب الحرب الروسية الأوكرانية)، وعودة الإغلاق في الصين، وقبلها تبعات فيروس كورونا الذي دمر جزءا كبيرا من سلاسل الإمداد وقوة العمل وأدى إلى خفض العرض العالمي. أما ارتفاع الطلب فيأتي نتيجة للتعافي من جائحة كورونا، بعد سياسات مالية ونقدية توسعية جداً، وارتفاع الادخار. ولأن هناك طلبا قويا أسرع من استجابة العرض، فإنه يؤدي إلى ارتفاع الأسعار، وأتت الحرب الروسية الأوكرانية‬، بتبعاتها على نقص الطاقة والغذاء لتصب الزيت على النار، ولأن جزءا كبيرا من هذا التضخم بسبب صدمة من جانب العرض، بسبب نقص الطاقة والغذاء، فإن البنوك المركزية لا تستطيع فعل شيء حيال ذلك، ولكنها تحاول معالجته بإحداث صدمة سلبية على جانب الطلب لتثبيطه، والإبطاء من عجلة الاقتصاد، وذلك برفع تكلفة الائتمان من خلال رفع أسعار الفائدة، ‬لكبح التضخم. إن عدم ضبط التضخم المرتفع، يؤدي إلى انفلات التوقعات التضخمية، ويدخل الاقتصاد في دوامة سباق متسارعة بين الأسعار والأجور، تدخل الاقتصاد في انكماش قد يطول على أية حال كما حدث في السبعينيات، والمركزي الأمريكي والبنوك المركزية الأوروبية، تريد تجنب ذلك، هذا بالإضافة إلى الآثار الاجتماعية والسياسية للتضخم. تكلفة ضبط التضخم ولكن الإشكالية هي في حجم ووتيرة الرفع المتسارعة، والتي لم يحدث لها مثيل منذ عدة عقود، وتأثيرها على القطاعين الحقيقي والمالي في الاقتصاد. بمعنى آخر هل يتسبب ذلك في إدخال الاقتصاد في انكماش، بالإضافة إلى الآثار السلبية الأخرى على أسواق المال والدين والعقار؟ فبأي تكلفة سيتم ضبط التضخم، وهل ستكون مبررة؟ كانت التوقعات بانكماش معتدل مع منتصف العام القادم نحو منطقة السالب، وارتفاع في معدل البطالة من 3.7 % هذا العام إلى 4.4 %، العام المقبل في أمريكا، ولكن يبدو أن هذا السيناريو كان متفائلا. فلسوء الحظ أن هذه الأزمة أتت بعد فترة طويلة من السياسات المالية والنقدية التوسعية جداً، وتراكم الدين لمستويات عالية، على أثر أزمة كورونا وما قبلها، ولذلك سيكون لمحاولة الخروج منها بهذه الطريقة القوية والمفاجئة، باقتصاد مثقل بالدين، ثمن باهظ، وهو وضع مشابه للأزمة المالية العالمية عام 2008، وأزمة ديون أوروبا السيادية عام 2010، إذ ابتدأتا من مستويات عالية للدين. ولن يكون خفض التضخم سلساً وبآثار سلبية محدودة في الأجل القصير، كما كان متوقعا، بل على الأرجح أن تكون على شكل صدمة عميقة وليست بقصيرة الأجل. ويجب ألا ننسى أن هذا الرفع قد ابتدأ من أسعار فائدة مقاربة للصفر، بسبب السياسات النقدية التوسعية لمواجهة أزمة كورونا، بالإضافة إلى ما تم ضخه من سيولة ورؤوس أموال هائلة، وديون مرتفعة في النظام المالي، فلم يكَد الاحتياطي الفيدرالي الخروج من سياسة أسعار الفائدة شبه الصفرية والتيسير الكمي لضخ كميات عاملة من رؤوس الأموال، خلال فترة الأزمة المالية العالمية من 2016-2008، حتى عاودها خلال أزمة كورونا عام 2019. أزمة مالية جديدة فمع حجم الدين الكبير، وفي جميع القطاعات الاقتصادية - القطاعين العام والخاص؛ العائلي، والشركات والمؤسسات المالية وغير المالية؛ والحكومات والدول، فإن رفع سعر الفائدة بهذا القدر والوتيرة، سيخلق أزمة ديون وضغوطات مالية كبيرة، ويرفع من حالات الإجهاد في النظام المالي. وهذا سيؤثر سلبا على أسواق العقار والمال، وعلى مقدرة القطاع العائلي وقطاع الأعمال المالية، وسيخفض الاستهلاك والإنفاق ويطمس الاستثمار من جهة، ومن جهة أخرى سيرفع تكلفة خدمة الدين. وبالتالي هذا سيقود إلى نفس النتيجة وسيجعل الانكماش أسوأ، ولذلك المركزي الأمريكي والبنوك المركزية في مأزق. فهدفها الأساسي هو ضبط التضخم، وإن لم تفعل فسيخرج التضخم عن السيطرة، بآثارة الاقتصادية والاجتماعية المدمرة، وإن فعلت فسيحدث ذلك أزمة مالية ثم اقتصادية، ثم انكماش عميق، والسبب هو حجم الدين الهائل في النظام المالي. فالدين يكاد يكون هو في قلب كل أزمة مالية، فمعظم الأزمات المالية تاريخيا، سبقها عاملان، هما توسع مفرط في منح الائتمان، وتضخم في أسعار الأصول. وبالتالي فإن محاولة ضبط التضخم الآن، بحسب هذا السيناريو، ليس فقط سيحدث صدمة اقتصادية كبيرة، بل إنكماش عميق، وانهيار في أسواق الأصول – العقار والمال بجميع أنواعها. وفي هذه الحالة سيغذي انهيار القطاع المالي، القطاع الحقيقي، وسيكون هناك أثر متبادل بين الاثنين يقود إلى انهيار مالي اقتصادي. فما كاد الاقتصاد العالمي أن يتعافى من أزمة جائحة كورونا، حتى أصيب بأزمة اجتياح روسيا لأوكرانيا. قطر ودول الخليج ولأن البنوك المركزية الخليجية تثبت عملاتها أمام الدولار الأمريكي، فلا يوجد لديها خيار سوى اتباع سياسة الاحتياطي الفيدرالي النقدية. ‏ وحاليا يوجد توافق في التوجهات التضخمية بين دول الخليج‬ وأمريكا، جزئياً، بسبب ارتفاع، مداخيل النفط‬ في الأولى، وأسعاره في الثانية، فالرفع عموما في الاتجاة المناسب الآن، عكس التفارق الذي حدث في الدورة التضخمية التي سبقت الأزمة المالية العالمية 2008، وجزء من التضخم‬ الخليجي محلي والآخر مستورد بسبب ارتفاع الأسعار الدولية، وبالتالي هو متسق مع التضخم العالمي. ولكن حجم ووتيرة الرفع المتسارع في أسعار الفائدة الأمريكية، سيكون له آثار سلبية على أسواق المال والعقار والدين الذي سترتفع تكلفته على المقترضين، وأسواق المال أيضا ستتأثر سلبا بهبوط أسواق المال العالمي، لكن ذلك لن يقود إلى انكماش، خصوصا في قطر. الدول العربية والاقتصادات النامية والمتحولة ‏أما الدول العربية‬ الأخرى فستصاب بصدمة ثلاثية: ارتفاع أسعارالغذاء‬، وارتفاع أسعار الطاقة، وارتفاع أسعارالفائدة‬ وتكلفة الائتمان وخدمة الدين، وسيؤدي ذلك إلى خروج في رؤوس الأموال من هذه الدول، وإلى انخفاض قيم عملاتها، وبالتالي أيضا المزيد من ارتفاع معدلات التصخم وارتفاع تكاليف خدمات الديون المقومة بالدولار، وستحد هذه العوامل من التعافي من أزمة كورونا‬ وربما يدخل بعضها في انكماش عميق أو ركود تضخمي‬ اعتمادا على حدة هذه العوامل، وكذلك الحال بالنسبة للاقتصادات النامية والمتحولة، فبالإضافة إلى معدلات التضخم المرتفعة بسبب نقص الطاقة والغذاء، فإنها أيضا ستواجه حركة عكسية بخروج رؤوس الأموال وهبوط أسعار صرفها، وبالتالي المزيد من ارتفاع معدلات التضخم مع ارتفاع تكلفة الديون الدولارية، وقد يدخلها في انكماش، أو ركود تضخمي. متخصص في السياسة النقدية وعلم الاقتصاد السياسي