18 سبتمبر 2025
تسجيلفي مقال الأسبوع الفائت، تطرقنا إلى أن تأثير الدول اليوم ما عاد يقاس بأحجامها، لكن بأفعالها وسياساتها والإستراتيجيات التي تقوم عليها علاقاتها بالآخرين. وذكرنا بأن دول الخليج الصغيرة من ضمن الدول ذات التأثير الإقليمي رغم صغر أحجامها الجغرافية، وهذا العامل وضعها في دائرة التهديد الوجودي، وأن احتماليات الابتلاع من الكبار قائمة، سواء من البعيد الغريب أو الجار القريب.. وقلنا في ختام المقال: إن قطر استشعرت هذا التهديد الوجودي مبكرًا، فبدأت تتغير رؤيتها المستقبلية بشكل بدا أكثر بروزًا ووضوحًا من بقية دول الخليج الأخرى.. فماذا فعل القطريون إزاء مهددات أمنهم ووجودهم؟ لم تمض على كارثة غزو الكويت وانتهاء حرب الخليج الثانية عدة أشهر، إلا وقد وقع ما كان يُخشى منه، حين تحرشت السعودية بقطر في حادثة مركز الخفوس الحدودي ومقتل بعض حرس الحدود القطريين عام 92، وما أعقب ذلك من تغييرات على الحدود البرية بناء على اتفاقية سرية بين السعودية والإمارات كانت أبرمت في 1974 دون علم قطر، ولكن ظهرت أواسط 1995 للعلن، وكانت تقضي بتنازل السعودية عن بعض أجزاء من واحة البريمي التي هي منطقة العين الآن للإمارات، مقابل أجزاء من شريط خور العديد الساحلي، لتخسر بذلك قطر منفذًا بريًا مع الإمارات، وليكون المنفذ البري الوحيد لقطر نحو العالم يمر عبر السعودية، ولأجل أن يتحول هذا المنفذ البري الوحيد، إلى ورقة ضغط بالغة التأثير بيد الرياض، تستخدمها وقتما تشاء! قطر إذن منذ وقت مبكر من تسعينيات القرن الفائت، أدركت أهمية وضع إستراتيجية سياسية تأمينية بعيدة المدى، تحفظ البلاد من مخاطر إقليمية كانت قد بدأت مؤشراتها تنذر باحتمالية حدوثها في أي وقت، كنتيجة طبيعية لصراع قوتين كبيرتين بالمنطقة بعد هزيمة العراق ومحاصرته دوليًا، وهما إيران والسعودية، فكان لزامًا على قطر بدء التحرك الفاعل السريع لتجسيد نوعين من السياسات. الأولى سياسة التحالف مع قوى عظمى، والدخول معها في اتفاقيات حماية أو دفاع مشترك، والثانية الأخرى تسمى سياسة التحوط أو التوازن. أما السياسة الأولى المتمثلة في اتفاقيات التحالف مع قوى كبيرة، فقد بدأت قطر أواسط التسعينيات وبشكل تدريجي، الدخول في تحالف عسكري مع القوة الأمريكية، التي بدأت تأخذ وضعها الإستراتيجي بمنطقة الخليج بعد هزيمة العراق. وكانت من نتائج ذاك التحالف أو الاتفاقية بناء قاعدة عسكرية أمريكية والمعروفة بقاعدة العديد.. ولعل أزمة سحب السفراء عام 2014 وأزمة الحصار 2017 مع الرباعي المتأزم، والتهديد الوجودي الذي كان قاب قوسين أو أدنى أن يطبق على قطر في المرتين، دفعتا بالدوحة إلى تحالف ثان مع قوة إقليمية كبيرة تمثلت في تركيا، والدخول معها في تحالف دفاعي مشترك. السياسية الثانية التي تسمى بسياسة التحوط، فقد ترجمتها قطر عمليًا وبنجاح. ذلك أن منطقة الخليج اليوم صارت بيئة فوضوية، تمتد الكثير من الأيادي إليها لسبب وآخر، والدول الصغيرة مهددة في كل لحظة من قبل قوى إقليمية كبيرة كالسعودية وإيران، أو قوى خارجية طامعة في ثروات المنطقة، وما أكثرهم.. قطر تطبق سياسة التحوط أو سياسة التأمين الجيوسياسية مع كل من إيران والسعودية، ليس بحثًا عن مكاسب اقتصادية بقدر بحثها عن كل ما يحافظ على مكتسباتها الحضارية لأطول مدى ممكن. قطر تحافظ على الروابط المختلفة مع الدولتين، السياسية والاقتصادية والأمنية، وفي الوقت نفسه تسعى لتأمين نفسها من أي أخطار مستقبلية محتملة قد تصدر عن طهران أو الرياض، وذلك بسياسة التحالف مع قوى أخرى مضادة لكلا الدولتين. فأما إيران فقد تفهمت تلك السياسة الخارجية لقطر، فبادلتها بالمثل، وعززت من علاقاتها الإستراتيجية معها، فيما وضح أن السعودية على عكس إيران، لم تكن ترغب أن تحيد قطر بسياسة خارجية تخالف سياستها، وعدم الرغبة تلك ترجمتها الرياض، وفق مفاهيم خاصة بها، على أنها تغريد خارج السرب. وتبعتها في ترديد ذاك الاتهام - إن صح التعبير- بقية المتحالفين معها في معسكر الرباعي المتأزم. تلك المعارضة السعودية للسياسة الخارجية لقطر، صارت ربما واحدة من الأسباب التي أدت إلى ما عليه المنطقة اليوم من أزمة معقدة متمددة، وقد خسرت الرياض بسببها أكثر مما ربحت، على العكس من طهران التي تزداد قوة إلى قوة ومن مكسب إلى آخر. إضافة إلى سياسية التحوط التي قامت قطر باتباعها منذ أواسط التسعينيات، فإنها تدرك تمامًا بأن الاعتماد على تلك السياسة فقط لا تكفي، بل لابد من صناعة وتفعيل قوى ناعمة أخرى تعمل على تعزيز مكانة وتأثير الصوت القطري في العالم، فكانت القوة الأولى شبكة الجزيرة الإعلامية وتأثيرها البالغ على صناعة وتشكيل الوعي والرأي العام في العالم العربي منذ أن قامت وإلى الساعة، تبعتها حسن استثمار فوائض النفط وتوظيفها في استثمارات اقتصادية متنوعة في مراكز القوة وصناعة القرار بالعالم، ثم ثالثة القوى تمثلت في القيام بلعب دور الوسيط في النزاعات والخلافات الإقليمية المختلفة، والتي شهد العالم على دور الدوحة الإيجابي المؤثر في تفكيكها وحلحلتها. لهذا وفي غضون عشرين عامًا، برز اسم قطر في الكثير من المجالات والأصعدة، وأدى بها عبر تطبيق تلك السياسات أن تنطلق بعيدًا وسريعًا عن التحركات السلحفائية لبعض أعضاء منظومة مجلس التعاون، في ظل الوصاية السعودية المفروضة على المنظومة منذ نشأتها، الأمر الذي بدأ يثير حفيظة بعض الخليجيين، وهم تحديدًا الثلاثي المحاصر لقطر ومعهم بعض العرب وعلى رأسهم مصر.. وبدأ على إثر ذلك انتشار عبارة أن قطر تغرد خارج السرب، أو أنها تلعب أدوارًا أكبر من حجمها، إلى غير ذلك من اتهامات تبدو أنها مؤشر واضح على رغبة إقليمية لتحجيم دور قطر في إقليم الخليج إلى أقل درجة ممكنة، حتى لو أدت تلك الرغبة إلى محاصرتها، دون الاكتراث لما قد ينتج عن الحصار من نتائج وتبعات وتأثيرات سلبية، وهذا هو ما يحصل الآن بقيادة أبو ظبي وتنفيذ سعودي وتشجيع مصري مع حماسة بحرينية منقطعة النظير! إن السؤال الذي يطرح نفسه ها هنا يقول: لو أن تهمة قطر هي لعب أدوار أكبر من حجمها، أو تغرد خارج السرب الخليجي والعربي، فلماذا لم يلعب أصحاب الأحجام الكبيرة من العرب أدوارهم كما يجب في حفظ أمن واستقرار المنطقة ودولها الصغيرة تحديدًا، وتحميها من الطامعين المتطلعين لخيراتها، بدلًا عن الجري وراء ثروات غير والهيمنة على مقدراتهم وقراراتهم؟ نحن كدول صغيرة في منطقة خطرة، لا نملك الكثير من رفاهية البطء في فهم ما يجري من حولنا. إننا مهددون وعلينا استيعاب غالبية المتغيرات الإقليمية والدولية من حولنا، ورسم سياساتنا واتجاهاتنا في العلاقات الدولية بحكمة بالغة، وبناء على تقدير دقيق لآثار تلك المتغيرات. إنّ فشل مجلس التعاون طوال ثلاثة عقود مضت، في بناء نظام أمني مشترك موحد، أو الاتفاق على إستراتيجية أمنية متماسكة تميز العدو من الصديق، لا يجب أن يكون سببًا في منع أي عضو في المجلس من أن يتحرك بمفرده، طالما أنه مهدد والخطر محدق به من الجار القريب قبل الجار الغريب، وهذا هو تمام ما فعلته قطر قبل فوات الأوان.. والمؤمن لا يُلدغ من جحر مرتين.