17 سبتمبر 2025
تسجيلأثارت عملية تعاقد الحكومة المصرية مع شركة علاقات عامة أمريكية لتحسين صورتها لدى الرأي العام وصانع القرار الأمريكي ردود أفعال كثيرة وجدالا كبيرا. هل القرار سليم؟ وهل ستستطيع وكالة العلاقات العامة تحسين صورة قد لا يشفع لها إلا الممارسة السياسية السليمة والديمقراطية والمبنية على الرأي والرأي الآخر؟. هل القرار صائب خاصة أن الشركة لديها علاقات وطيدة مع الكيان الصهيوني وبعض المسؤولين فيها إسرائيليون بالإضافة إلى وجود تضارب في المصالح وتناقض صارخ مع أخلاقيات العلاقات العامة. من جهة أخرى هناك كلام كثير يُتداول هذه الأيام عن عملية تجسس وكالة الأمن القومي الأمريكية على مكالمات رئيس 35 دولة في العالم مما سيهز صورة أمريكا محليا ودوليا، والسؤال هنا هو هل بإمكان العلاقات العامة أن تحسن صورة دولة تقوم بالتجسس على دول أخرى وتضرب عرض الحائط أخلاقيات ومبادئ العلاقات الدولية. يظن الكثيرون أن العلاقات العامة بإمكانها أن تفعل كل شيء وأن تغير المواقف والآراء والصور. وأن الأمر يتعلق بمجرد استعمال استراتيجيات اتصالية وحملات إعلامية. هذا الاعتقاد في حقيقة الأمر ناجم عن فهم خاطئ للعلاقات العامة، حيث إن هذه المهنة، مع الأسف الشديد، هي من أكثر المهن في العالم معاناة من سوء الفهم وسوء الاستعمال. فالعلاقات العامة التي تقوم على المهنية والتميز والالتزام والأخلاق تعتمد في فلسفتها على الأفعال وليس الأقوال، كما أنها تعتمد على الصدق وعلى احترام الجمهور والرأي العام كما أنها تتجنب الوعود الكاذبة و الصور الفضفاضة والكلمات الرنانة التي قد تكون أكبر بكثير من حجم المنظمة أو المؤسسة التي تحاول تقديمها وتسويقها للجمهور. كما أنه يوجد اعتقاد سائد في العديد من دول العالم أن العلاقات العامة هي "دعاية" وأنشطة اتصالية تؤمن بمبدأ الغاية تبرر الوسيلة.وهذا الاعتقاد خاطئ ولا أساس له من الصحة لأن الوظيفتين الرئيستين للعلاقات العامة هما بناء الصورة وإدارة السمعة. فمنطقيا العلاقات العامة لا تستطيع بناء الصورة بالاعتماد على الدعاية وبتضخيم الأحداث والمعلومات وغير ذلك لأن الرأي العام لا يقتنع إلا بالحقائق والوقائع والإحصاءات والأدلة والحجج والبراهين. مارست الإدارة الأمريكية ما تسميه ب"الدبلوماسية العامة" لتجميل صورة الولايات المتحدة في العالم بعدما اكتشفت بعد 11 سبتمبر أن صورتها سلبية جدا و معظم شعوب العالم لها فكرة سيئة عن ممارسات الولايات المتحدة في العالم. الأمر الذي أدى بالإدارة الأمريكية إلى تأجير أقلام في دول عديدة من العالم لإبراز دور أمريكا في محاربة الإرهاب والتخلص من الدكتاتوريين أمثال الرئيس صدام حسين وغيره. أما داخل الولايات المتحدة الأمريكية فلقد استعملت مختلف أساليب القمع و كبت الحريات العامة بحجة الحرب على الإرهاب و شملت هذه الطرق والسبل حتى من يتظاهر للدفاع ومناصرة قضايا كالبيئة و حقوق الإنسان و الحريات الفردية و حرية الصحافة و التعبير. فمنذ وصول إدارة بوش إلى السلطة و هي تستعمل طرق ووسائل مختلفة و عديدة للوصول إلى الرأي العام من أهمها إخفاء الحقائق والتركيز على ما يدعم سياستها و قراراتها. و من أهم الوسائل التي استعملتها إدارة بوش حملات علاقات عامة سرية لكسب ولاء وسائل الإعلام الأمريكية و الأجنبية للترويج لسياساتها. فإدارة بوش كانت تبدل قصارى جهودها لإقناع الشعب العراقي والرأي العام الأمريكي والعالمي أن الأوضاع في العراق أحسن بكثير عما كانت عليه في عهد صدام. والواقع بطبيعة الحال غير ذلك تماما. فكل وسائل الإعلام المأجورة و الموالية للبيت الأبيض أصبحت تتغاضى عن الواقع اليومي المر الذي يعيشه الشعب العراقي حيث تدنى مستوى الخدمات بمختلف أنواعها ناهيك عن انعدام الأمن وغلاء المعيشة والجرائم. ..الخ. و بدلا من كل هذا ركزت وسائل الإعلام على الأخبار الإيجابية و التي تزخرف وتلون صورة أمريكا محليا و عالميا خاصة في الوطن العربي وهذا بإنشائها راديو "سوا" وتلفزيون "الحرة". كما لجأت إدارة بوش إلى إنشاء ما يسمى بإدارة "العمليات الإعلامية" لإنتاج مقالات و تقارير صحفية تكتب باسم كتاب عراقيين لتضليل الرأي العام. هذه الإدارة والتي تنشط تحت مظلة البنتاجون خصص لها مئات الملايين من الدولارات من أجل نشر الدعاية السياسية والخطاب الإعلامي الإيجابي و المحابي لأمريكا من أجل إخفاء السلبيات و التركيز على الإيجابيات. كما اعتمدت إدارة بوش على المعارضة العراقية التي كانت تزودها بأخبار مغلوطة و زائفة واشتهر الجلبي بالحصول على أموال طائلة لتقديم أكاذيب للأمريكيين من أهمها وجود أسلحة الدمار الشامل في العراق و لقاء الرئيس صدام حسين بأسامة بن لادن ووجود علاقات وطيدة بين العراق والقاعدة. هذه الأخبار تداولتها وسائل الإعلام الأمريكية بدون مساءلة ولا تحقيق و لا تمحيص في مصداقيتها. ففي حربها على الإرهاب و غزوها لأفغانستان و العراق جندت إدارة بوش إمكانيات كبيرة لتجميل صورتها في العالم كما جندت عددا كبيرا من الصحفيين و استخدمت وسائل الإعلام كوسائط دعائية للحكومة.وبذلك جندت وكالة المخابرات المركزية عددا لا يستهان به من الصحافيين في عملية التضليل و التبرير و التلاعب الإعلامي من أجل كسب الرأي العام و من جهة أخرى و مقابل التقرب و كسب ود الصحافيين، استعملت إدارة بوش إجراءات أخرى للتخلص و إبعاد الصحافيين الجادين المعروفين بالتزامهم بقضايا الجماهير، و كانت هذه الطريقة تستخدم في المؤتمرات الصحفية للرئيس بوش حتى لا يتم إحراجه بأسئلة جدية و مبنية على معطيات و حقائق من الميدان. ففشل أمريكا في حربها على الإرهاب عملت المؤسسات الإعلامية الكبيرة على تبريره و تقديمه للرأي العام سواء في أمريكا أو في العالم على أنه نجاح. اشتهرت أمريكا بانتقادها الموجه للدول السلطوية و للاتحاد السوفيتي سابقا بسبب سيطرتها على وسائل الإعلام و التحكم فيها كما تشاء، و أكثر من ذلك تسخيرها لتقديم الواقع كما تريده السلطة و ليس كما هو. المتتبع لحرب أمريكا على الإرهاب يلاحظ أن إدارة بوش أصبحت تتعامل مع وسائل الإعلام كالدول الشمولية و أصبحت تتعامل مع السلطة الرابعة و حرية الصحافة و حرية التعبير و كأنها الاتحاد السوفييتي بعد الحرب العالمية الثانية. ففي ظل إدارة بوش أصبح الصحفيون الأمريكيون عملاء لحكومتهم، بدلا من مراقبتها و الوقوف عند تجاوزاتها و استقصاء الحقيقة و مساءلة كل التصريحات والتقارير، أصبحوا يهللون و يصدقون كل التقارير و كل ما يصرح به السياسيون و الجنرالات. فوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية استطاعت و من أجل كسب الحرب الإعلامية الموازية للحرب على الإرهاب تجنيد العديد من الصحفيين واستكتابهم لتزييف الحقائق وتضليل الرأي العام وتقديم ما يخدم سياسات إدارة بوش و توجهاتها حتى و إن كانت على خطأ. قالت صحيفة نيويورك تايمز في هذه الفصيلة من الصحافيين ما يلي: "تكفي ضغطة واحدة على الزر لتعزف تلك الأبواق ولتصبح أداة لأوركسترا الدعاية بأية لغة و في أي بلد من بلاد العالم طالما أن مزاج السي أي إيه يتقبل الاستماع إليها. ويدعم تلك الأبواق أوركسترا كبيرة من الصحافيين". فإدارة بوش لم تقتصر على "شراء" الصحافيين الأمريكيين بل تخطت ذلك إلى أنحاء العالم حيث أشترت الأصوات والعملاء من الصحافيين والمؤسسات الإعلامية لإسماع صوتها و إسكات أي صوت من شأنه أن ينتقد الولايات المتحدة الأمريكية. فهل نجحت أمريكا في تحسين صورتها في العالم، طبعا لا لأن تحسين الصورة لا يتحقق عن طريق شراء الأقلام والذمم والتضليل والتشويه وتأجير وكالات العلاقات العامة.