02 نوفمبر 2025
تسجيلاحتفلت تركيا قبل أيام في التاسع والعشرين من أكتوبر بالذكرى التسعين لتأسيس الجمهورية. الجمهورية التي أسسها وأعلنها وترأسها وقادها مصطفى كمال أتاتورك في العام 1923 شكلت علامة بارزة في تاريخ العالم الإسلامي.فقد كانت الدولة المسلمة الأولى التي تعتمد العلمانية في دستورها نظاما للدولة وسلوكا في المجتمع.وكانت الدولة المسلمة الأولى التي سعت لتنتهج وسائل الغرب في التعليم والتشريع والتصنيع ،بحيث ينقل عن أتاتورك أن الحضارة الوحيدة الموجودة في العالم هي الحضارة الأوروبية وبالتالي فهي القدوة للتقدم. بنى أتاتورك جمهوريته متأثرا بطبيعة مهنته العسكرية التي تتسم بالصرامة وعدم التهاون فطبق ما يريد بقساوة وتأثر كذلك بما رآه شخصيا كونه كان ضابطا في الجيش العثماني من انهيار دولته التي كانت إمبراطورية على امتداد 700 عام.فكان تحميله الفلسفة الإسلامية للدولة سبب التخلف والانهيار فكانت ردة فعله بمحاولة تصفية الدين من كل مظاهر الحياة السياسية والاجتماعية على وجه الخصوص.وهو ما سبب له من المواجع والمشكلات التي جعلته يواجه الجمهور الأعم من المجتمع التركي الذي كان لا يزال يتشرب القيم الإسلامية بمعزل عن كيفية فهمه للإسلام وتطبيقه لتعاليمه. وتفرغ أتاتورك لحماية بقايا الإمبراطورية التي تحولت إلى جمهورية.فرفع شعار "سلام في الوطن سلام في العالم" فامتنع عن التطلع خارج حدود الجمهورية نائيا بنفسه عن تعريض البلاد للأخطار وهي لا تزال فتية طرية العود. غير أن الدولة- الأمة التي أسسها أتاتورك فهمها على أساس أنها دولة الأتراك فقط وليست دولة أيضا للقوميات التي وجدت نفسها في الجمهورية الجديدة وعلى رأس هذه القوميات الأكراد.وهو ما استولد بحكم المنطق والطبيعة والضرورة المشكلة الكردية التي لم يعترف أتاتورك بوجودها لأنه كان ينكر بالممارسة العملية وجود شعب كردي بل عمل هو وخلفاؤه على طمس الهوية الكردية ومحاولة إبادتها تماما كما حدث مع القومية الأرمنية وما ارتكب من مجازر في حقها في العام 1915 حيث قتل مليون ونصف المليون أرمني. بحيث يكاد يوجد انطباع أن العرق التركي من سماته إنكار الآخر ومحوه وهذا أمر خطير جدا على صورة الأمة التركية. بعد تسعين عاما تجد تركيا نفسها في مرحلة ذات عناوين مختلفة.وهذا حصل بشكل أساسي مع حزب العدالة والتنمية وهو حزب إسلامي مرجعيته الدين وليس العلمانية وكان هذا هو التحول النوعي الأهم في مسيرة الجمهورية.فحزب العدالة والتنمية وفي تصريحات ومواقف وخطوات معظم قادته الأساسيين يعتبر الدين والشريعة هي المرجع للسلوك بل حتى للتشريع.ويمكن إعطاء مثال حيّ وقابل للفهم المباشر على ذلك مسألة ارتداء الحجاب في الجامعات والإدارات الرسمية وغير ذلك.فرئيس الحزب رجب طيب أردوغان عندما دافع عن حق ارتداء الحجاب إنما انطلق من أنه "فرض ديني".في حين أنه في بلد علماني يفترض أن يكون ذلك من باب ما تقتضيه الحريات الشخصية والفردية.أو على الأقل ما يجمع الحالتين الدينية والفردية. إن الانتقال بتركيا من بلد علماني،بالقدر الذي فهمه الأتراك من العلمانية، إلى بلد مرجعيته الدين وتعاليم الشريعة يطرح أسئلة كثيرة حول ما يمكن أن تؤول إليه الجمهورية الجديدة.وهو تحدّ مطروح بقوة ويرد على السؤال الأزلي لكتّاب عصر النهضة في العالم العربي والدولة العثمانية وهو :" لماذا تقدم الغرب وتخلف المسلمون؟".فهل العلمنة والإصلاح على النمط الغربي هو الذي جعل تركيا بلدا أكثر تقدما،ولو بشكل محدود من بقية العالم الإسلامي وبالتالي أن الحفاظ على هذا التقدم يقتضي الاستمرار في هذا الطريق أم أن التطبيق الخاطئ والتفسير الضيق للإسلام والشريعة كان السبب؟. يواجه حزب العدالة والتنمية وتركيا تحديات كبيرة للموازنة بين أسباب التقدم الغربي والحفاظ على الهوية الثقافية للمجتمع.فالسماح للحجاب مثلا يجب أن يكون أيضا من باب تعزيز الحريات وليس فقط كونه فرضا دينيا وهو ما يجب أن ينسحب على سائر المشكلات التي لا تزال عالقة ولم تجد حلولا لها ومنها حرية الإنسان الكردي في أن يتعلم بلغته الأم.فالحريات،كما الديمقراطية، كل لا يتجزأ.وإذا نجحت تركيا في سؤال العلاقة بين الهوية من جهة والحرية والديمقراطية من جهة أخرى تكون أسدت للإسلام والمسلمين أكبر خدمة وهو الأمر الذي يحتاج إلى مزيد من الوقت والممارسة لتبيان الجواب النهائي الذي لم يتبلور بعد.