20 سبتمبر 2025
تسجيلبدأت الأزمة المالية العالمية في الولايات المتحدة في سنة 2007 وتستمر حتى اليوم. للأزمة جذور اقتصادية واجتماعية تتلخص بتوسع الفجوة في الدخل والثروة بين الطبقات الشعبية. نتجت عنها بطالة وفقر وقلق وعدم استقرار في وقت مارست خلاله أقلية سياسات الجشع والربح غير المحدود. الذي يدعو للعجب هو أن تأثير الأزمة على أوروبا أكبر بكثير من على دولة المنشأ والمناطق الأخرى. لم تصب دول في الأزمة كما يجري في اليونان أو كما جرى في أيرلندا وأيسلندا والبرتغال وإسبانيا. كل الاقتصادات الأوروبية مصابة باستثناء ألمانيا التي اعتمدت على الصناعة الجيدة المتفوقة للنمو. في منطقة اليورو، ارتفع عجز الموازنة من 0.6% من الناتج في سنة 2007 إلى 6.3% في سنة 2009. ارتفعت خلالها نسبة الدين العام من الناتج من 66% إلى 78.7%. تحقق الخلل المالي بسبب ضعف الإيرادات كما بسبب استعمال قسم منها لإنقاذ المصارف واليورو والوحدة النقدية. لم تصب الولايات المتحدة بالقدر نفسه بسبب نقدها المعتمد على الإقراض والاقتراض الدوليين. أما اليابان، فلم تنهر لأن من يملك الدين هم المؤسسات العامة التي لا تضارب ضد "الين" ولا مصلحة لها. منذ زمن غير بعيد كانت الدول النامية والناشئة وحدها مصابة بأزمات العجز والديون وكانت الدول الصناعية تعطي الدروس بكيفية إدارة الدول من كل النواحي. نسبة الدين العام من الناتج في الدول الصناعية اليوم هي أعلى مما كانت عليه في الدول الناشئة عندما دخلت في أزمة جدية. فالنسبة كانت 53% في الأرجنتين في سنة 2001، و%50 في البرازيل في سنة 1983، و59% في روسيا في سنة 1998، و63% في إندونيسيا و73% في تايلاندا في سنة 1997 قبل الانهيار. في الحقيقة، كان من المفترض ألا تصاب أوروبا كثيرا للأسباب التالية: أولا: تبقى الأسواق المالية الأوروبية أقل تطورا وعمقا وسيولة من الأسواق الأمريكية وبالتالي كان من المتوقع أن تبقى العدوى محدودة في حجمها وامتدادها. فالأسواق المالية هي عموما القناة التي تمتد عبرها الأمراض الاقتصادية والمالية، وهذا ما أكد عليه الكتاب عن الأزمات للاقتصاديين "روغوف" و "راينهارت". ثانيا: كانت أوضاع المالية العامة في أوروبا في منطقة اليورو وخارجها في سنة 2007 مقبولة نسبيا مقارنة بالولايات المتحدة واليابان والدول الناشئة. بلغ في سنة 2007 عجز الموازنة في كل من فرنسا وبريطانيا والبرتغال ما بين 2.7% و2.8% من الناتج. كانت الموازنة الأيرلندية متوازنة والإسبانية فائضة بنسبة 1.9% من ناتجها والدانماركية فائضة بنسبة 4.8% واليونانية عاجزة بنسبة 6.7% من الناتج. بين سنتي 2007 و2010 تحقق الانحدار، فارتفع عجز الموازنات بمعدل 6 نقاط نسبة للناتج. فالموازنة الأيسلندية انتقلت مثلا من فائض 5.4% في سنة 2007 إلى عجز قدره 13.5% في سنة 2008 بسبب دعمها للمصارف المتعثرة. انتقلت أيرلندا من موازنة متوازنة إلى عجز بلغ 32% في سنة 2010 وإسبانيا إلى عجز 9.3% والدنمارك إلى عجز 5.2% واليونان إلى عجز 9.7%. لم تكن الأسباب الأساسية دائما متشابهة حيث إن السبب الرئيسي للأزمة الأيرلندية مصرفي، أما لليونانية فيعود إلى عدم دقة الحسابات التي أضرت بسمعة الدولة عندما ظهرت إلى العلن. ثالثا: وجود النقد المشترك في 17 دولة تشكل الوحدة النقدية الأوروبية من أصل 27 دولة تشكل الوحدة الأوروبية. كان اليورو قويا واعتقد الجميع بأنه سيساهم في حماية الاقتصاد من الأمراض الخارجية بل سيقوي مناعتها وصمودها. كان من المفروض أن يكون اليورو منقذ أوروبا، فكان إحدى مشاكلها ومظاهر ضعفها وأصبح الاهتمام به ضروريا. إذا، جرت الرياح بما لا تشتهيه السفن؟ ما أسباب الانحدار الاقتصادي الأوروبي السريع وغير المتوقع؟ هل الحلول المطبقة ستنقذ أوروبا أم تدفعها أكثر نحو السقوط؟ أولا: بناء أوروبا على مراحل متعددة أدخلت إليها دولا لم تنضج. بنيت أوروبا على مراحل خمسة في سنوات 1950 (اتفاقية الفحم والفولاذ)، 1957 (السوق المشتركة عبر اتفاقية روما)، 1986 (توسيع السوق ليشمل السلع والخدمات ورؤوس الأموال والأشخاص أو ما يعرف بالقانون الواحد)، 1992 (اتفاقية ماستريخت التي أسست للوحدة النقدية) وثم 2009 (اتفاقية ليشبونة لحكم أوروبا أو الدستور). كل مرحلة كانت تضم دولا لم تكن مستعدة للتحدي، وهذا ما عبر عنه مؤخرا الرئيس ساركوزي بشأن اليونان واليورو. ثانيا: كانت هنالك أسباب مالية اقتصادية في غاية الأهمية. تم تخفيض الضرائب على الشرائح الغنية مما أسهم في تخفيض نسبة الإيرادات من الناتج. لم تحصل الزيادات في العجز المالي بسبب الإنفاق بل بسبب الحسومات الضرائبية على الشركات والأغنياء التي ضربت نتائج الموازنات. في الضريبة على الدخل وفي النسبة المطبقة على أعلى الشطور، نرى أنها انخفضت في كل أوروبا بين سنتي 1986 و2007 بينها من 65% إلى %40 في فرنسا، ومن 72% إلى %50 في بلجيكا ومن %60 إلى %40 في بريطانيا. نتج عن هذا الخلل الكبير انخفاض في الإيرادات من الناتج بين سنتي 1997 و2007 داخل منطقة اليورو وخارجها. انخفضت الإيرادات من 46% إلى 43.3% في فرنسا ومن 42.2% إلى 39.5% في ألمانيا. جاء هذا الخلل على حساب الطبقات الوسطى وما دون التي تعاني اليوم من خطر تخفيض الإنفاق الاجتماعي. ثالثا: وجود سياسة نقدية واحدة في منطقة اليورو وسياسات مالية مختلفة ومتنافسة في دول ذات أوضاع متباينة أسهم في تعميق الفجوة بين الدول والمجتمعات وداخلها. بينما أسهمت سياسة الفوائد المنخفضة في تشجيع الاستثمارات في دول الشمال، أسهمت في تشجيع الإنفاق في دول الجنوب. كانت المصارف المستفيدة على حساب دافعي الضرائب في كل المراحل. كيف تم تمويل العجز المالي؟ عبر الاستدانة من الأسواق المالية بفوائد مرتفعة أثقلت كاهل الموازنات. كانت المصارف المستفيدة الأولى بحيث اقترضت من المصارف المركزية بفوائد متدنية وأقرضت الدول بفوائد مرتفعة وعندما تعثرت لأسباب إدارية وعملية متهورة لجأت إلى الدولة أي إلى دافعي الضرائب. هكذا استفادت المصارف عدة مرات من عملية العجز المالي عبر الأرباح والإنقاذ من الإفلاس. في كل حال عندما تكون نسبة الفائدة الحقيقية على الدين العام أعلى من نسبة النمو، يرتفع ثقل الدين العام من الناتج وهذا ما يحصل اليوم ويؤدي إلى تعثر الموازنات وبالتالي تعثر دور السياسة المالية في الاقتصاد. لا يمكن أن يكون الحل المالي في أوروبا تخفيضا في الإنفاق بل إلغاء للحوافز الضرائبية السخية على الشركات والأغنياء. لا يمكن أن يأتي الحل عبر ضم دول جديدة إلى منطقة اليورو بل عبر تقوية المنطقة الحالية. لا يمكن لأوروبا أن تزدهر مع سياسات مالية متنافسة تسعى لاجتذاب المستثمرين عبر الحسومات والتخفيضات والحوافز، بل تجب تقوية التنسيق وربما الوصول إلى سياسة مالية مشتركة تساوي بين الدول وتحول الأموال من دولة إلى أخرى تبعا للحاجة ولمعالجة كارثة معينة أو ضعف ما. من الضروري التفكير في تحويل أهداف السياسات الاقتصادية من ضاربة للتضخم إلى أخرى تهدف إلى تحقيق النمو وتخفيض البطالة. التضخم مهم ومضر لكنه ليس أهم من العمل والتقدم والتنمية. من التعديلات الضرورية هي السماح للمصارف المركزية بإقراض الدولة مباشرة عند الضرورة وليس إجبارها على التوجه إلى الأسواق. حكما إذا تزايد الاقتراض العام المباشر من المصرف المركزي، يرتفع التضخم وهنا تكمن أهمية المقارنة بين ما هو أسوأ التضخم أم العجز المالي وما يتبعه من تأثير على الإنفاق الاجتماعي والاستثماري.