14 سبتمبر 2025

تسجيل

استقرار مصطنع

02 أكتوبر 2013

عندما يعلن الرئيس الأمريكي باراك أوباما بلا مواربة أن إدارته تقبل التعاون مع حكومات غير ديمقراطية، في إيماءة إلى حكومة الانقلاب في مصر، فإن هذا لا يجب أن يعني بالنسبة للانقلابيين أن الأمر قد استتب لهم، وأن ثمة توازنا إقليميا قد طفا إلى السطح، بدليل اعتراف البيت الأبيض به. فالتوازنات لا تستقر إلا إذا بلغت مرحلة تستطيع فيها مواجهة كافة التحديات المحيطة، وهذه الحالة بدورها لا تتحقق إلا بشروط، أهمها أن يكون الاستقرار نابعا من أسفل إلى أعلى، وأن يكون ناتجا عن التفاعل الحر والمفتوح بين كل مكونات المنظومة السياسية، من دون إقصاء أو استبعاد لأي مكون منها. وهذا خلاف ما عليه النظام الانقلابي الحالي، فالاستقرار الذي يدعيه هو استقرار مصطنع، وذلك لأنه يفتقر إلى المقومات السابقة؛ فهو مفروض بالقوة المسلحة، من أعلى إلى أسفل، ومن خلال إقصاء أطراف فاعلة في المعادلة السياسية الداخلية. ومن ثم لا يمكن اعتبار المشهد المصري قد استقر بالمعنى الذي يتمناه الانقلابيون. فالاستقرار القائم تم فرضه عبر فعل انقلابي فوقي ولم ينشأ نتيجة فعل مجتمعي (انتخابات)، كما أن ما يضمن استمراره فعليا هو احتكار من قاموا به للقوة المسلحة وليس دعم الجماهير له، ومن ناحية ثالثة فإنه "استقرار" يقوم على إقصاء كل الخصوم أو هو يضع شروطا تعجيزية أمامهم لكي يعاودوا انخراطهم في اللعبة السياسية. الأمر الغريب حقا أن توازنات شبيهة تم اختبارها في الماضي القريب (خلال حكم مبارك وأقرانه في ليبيا وتونس وسوريا واليمن)، وتبين بما لا يدع مجالا للشك أنها لا تصنع استقرارا حقيقيا وإنما فقط تصنع حالة زائفة من الاستقرار الشكلي، بل إن هذا الاستقرار المصطنع كان في واقع الأمر أحد أهم أسباب قيام ثورات الربيع العربي في مصر والمنطقة. فبأي منطق يمكن أن يراهن الانقلابيون أو رعاتهم داخليا وخارجيا عليه مرة أخرى؟ وعلى العكس فإنه خلال المرحلة "الشرعية" من عمر الربيع المصري، كانت العناصر الثلاثة للاستقرار متحققة بدرجات متفاوتة، فقد شهدت هذه المرحلة دورا أكبر للجماهير، حيث كان الشارع هو المحرك الحقيقي للأحداث، كما تراجعت الدولة الأمنية وصار الاعتماد على القوة أقل، والأهم أنها شهدت تفاعلا حرا بين كافة مكونات المجتمع السياسي على نحو لم يكن يقصي أو يستبعد أحدا. صحيح أنه كان هناك قدر من الفوضى، ولكن النظام السياسي كان قادرا على استيعابه بالتدريج، فقد صمد النظام أمام كمّ ضخم من المشاكل التي كان الكثير منها مفتعلا وأمام الدور السلبي الذي قام به الإعلام، ما يوحي بأنه كان على درجة عالية من الاستقرار، وهو ما تأكد من خلال الانقلاب نفسه. فقد احتاج الأمر فعلا استثنائيا بحجم تدخل القوات المسلحة لإخراج النظام الشرعي عن استقراره الحقيقي، ليرجع بالبلاد إلى الحالة التي قامت ضدها الثورة، وهي حالة الاستقرار المصطنع. والشواهد على زيف الاستقرار الحالي كثيرة، ويمكن الاكتفاء بشاهد واحد يتمثل في عصبية وعنف منفذي ومؤيدي الانقلاب، فرغم أنهم يمثلون الطرف المنتصر والذي يفترض أن يكون الأهدأ والأسعد بالغنيمة التي استولى عليها، إلا أنه على العكس يظهر عصبية مبالغا فيها، ويستخدم العنف المادي واللفظي على نحو تصاعدي، ويظهر ضيق صبر غريبا بكل المظاهر الرافضة للانقلاب حتى لو كانت رمزية، وبمن يعبرون عنها حتى لو كانوا أطفالا في سن المدارس. ومما يزيد من هشاشة حالة الاستقرار المصطنع أن تكلفة الحفاظ عليها تكلفة كبيرة، لأنها تتضمن استنفارا أمنيا وعسكريا متواصلاً، كما أن الاستمرار في سيناريو الإقصاء تحت يافطة الحرب على الإرهاب لا يحقق المردود المنتظر منه على المستوى الداخلي، في الوقت ذاته فإنه ذو أثر عكسي على المستوى الخارجي، فالمستثمرون لن تسعدهم المساهمة في بناء بلد يحارب الإرهاب. أما على المستوى الدولي/الأمريكي، فإن البيت الأبيض إذا كان قد سلم بأن قطار الانقلاب قد انطلق ولا سبيل لإيقافه، فإنه يفعل ذلك بغرض إنقاذ ما يمكن إنقاذه من المصالح الأمريكية التي تتدفق عبر المنطقة. فالولايات المتحدة أول من يدرك أن معادلة الاستقرار القائمة مختلة، ولكنها لا تملك الدافع للتمسك بالمعادلة البديلة. غاية ما هنالك أن الرئيس الأمريكي يحاول الإمساك بالعصا الدبلوماسية من المنتصف. فقد رفض تسمية الانقلاب انقلابا، ولكنه لم يبرئ الحكومة الانتقالية/الانقلابية من الأخطاء وفتح قوسين كبيرين ذكر بينهما انتهاكاتها السياسية والحقوقية، قبل أن يعود ويعلن استعداد بلاده للعمل معها، وفي الوقت نفسه فإن إدارته تعترف بأن مرسي قد جاء إلى الحكم بطريقة ديمقراطية ولكنها تعتبر أن استمراره في الحكم كان مستحيلا. وعلى أي حال يجب أن نتذكر أن الولايات المتحدة تعاني من مشكلة الرهان المستمر على معادلات الاستقرار المصطنع، فقد كانت ومازالت الراعية الأساسية للأنظمة القمعية مع كل ما يتصف به حكمهم من عدم استقرار. وعليه فإن الانقلابيين يخطئون إذا ما تصوروا أن شهادة واشنطن تعني أن الأوضاع دخلت في طور الاستقرار الحقيقي وأن الانقلاب قد استتب أمره، فقد أثبت التاريخ أن رهانات واشنطن عادة ما تكون في الجانب الخطأ!