14 سبتمبر 2025

تسجيل

سياسة الناس بين الترغيب والترهيب

02 سبتمبر 2021

على مدار التاريخ، ظهر قادة وزعماء، ساسوا بلدانهم وشعوبهم بطريقة وأخرى. تنوعت ما بين الترغيب والترهيب وما بينهما. نجح البعض في سياسة شعوبهم عبر أساليب الترغيب، فيما آخرون اتبعوا أساليب الترهيب، وفريق ثالث، مزج بين الأسلوبين. وقد كتب كثيرون حول أساليب قيادة الناس أو سياستهم، وظهرت نظريات في الإدارة والحكم كثيرة، يدرسها طلاب كليات الإدارة والسياسة في المعاهد والجامعات. لا شك أن سياسة الناس في مجتمع ما، تتطلب مهارات ومواصفات معينة لابد من توفرها في القادة والزعماء، أو من يقومون بمهام قيادة وتوجيه دفة حياة الناس وإدارتهم. والمجتمع البشري مر بمراحل عديدة وخاض تجارب مريرة في القيادة والإدارة، حتى انتهى إلى ما عليه اليوم من تنوع واضح بيّن. فتجد دول مؤسسات، وأخرى قمعية وثالثة تتراوح ما بين هذه وتلك. إن جئنا ننظر بشكل موجز إلى تلكم الأساليب، فنجد مثلاً حكومة ما، سواء كانت في دولة مؤسسية أم ما شابه ذلك، تقوم بممارسة قيادة وسياسة الناس عبر أسلوب الترغيب، أو إن صح وجاز لنا التعبير، أسلوب الطّرْق على وتر المنفعة الفردية للأشخاص، لاسيما المؤثرين منهم، وتمييزهم عن كثيرين بالهدايا، والعطايا، والمكانة، والوجاهة. وما تفعل تلك الحكومة ذلك إلا من أجل بسط سيطرتها ونفوذها على زمام الأمور عبر أولئك المنتفعين من هداياها وعطاياها، وصناعة ثقافة الأنانية في المجتمع. هذا أسلوب قديمٌ قدم التاريخ نفسه، ولكن مع ذلك لا يمكن التعويل عليه طويلاً، لأن له تاريخ صلاحية، بمعنى أنك قد تجد أولئك المنتفعين، ربما في لحظة تاريخية معينة، هم أول المنقلبين على من أكرمهم وأعطاهم وميّزهم عن الآخرين، بحثاً عن آخرين جدداً يضمنون استمرار سيناريو العطايا والهدايا ! وهذا أسلوب لا شك أنه لا يساعد البتة في بناء الدول، وإن كان يساعد في بناء الثروات لقلة قليلة منتفعة.. لكن بالمقابل يحدث أن تقوم حكومة ما لا تعرف للعمل المؤسسي أي معنى، أو لا تعترف بالمؤسسات أصلاً، وإن اعترفت بها فهي شكلية، حيث تجد السلطات فيها تتميز بأسلوب الترهيب، أو القهر والقسر في الإدارة وبسط النفوذ. حكومة لا تحتاج لصرف المال، بل عوضاً عن ذلك تهتم بتقوية الساعد والسلاح عبر مؤسسات أمنية متنوعة من أجل تحقيق تطلعاتها وسياساتها، والعمل على صناعة ثقافة الخوف في المجتمع، بحيث تظل تلك الثقافة مسيطرة على النفوس حيناً من الدهر غير قصير، تؤدي بالضرورة لنشوء حالة من استخفاف الحكومة بالناس، لدرجة أن يبدأ الناس بالطاعة والاستسلام اللاشعوري، أو ما يمكن تسمية تلك الحالة بالاستخفاف الفرعوني، كما في قصص القرآن عن هذا الطاغية أو النموذج الأبرز لمعنى الطغيان. فاستخف قومه فأطاعوه لقد كان الذي يحدث من فرعون تجاه شعبه، يمكن أن نطلق عليه بلغتنا المعاصرة (استهبال الناس) أو استخفاف عميق بعقولهم، عبر تمثيل بارع لأدوار متقنة منه وزبانيته، من بعد توجيه مصادر المعلومات التي تقع تحت سيطرتهم لتتحدث وتنطق بنفس العلم والحديث، وبأساليب فيها ترهيب ووعيد، حتى يعيش الناس ضمن إطار واحد من المعلومات بنفسية الخائف الذليل، لا يرون ولا يسمعون غيرها من معلومات، كي تسهل على فرعون عملية الاستخفاف بالناس، من أجل أن تثمر بعد ذلك على شكل طاعة شبه عمياء له. إن استخفاف الطغاة بالجماهير، كما يقول سيد قطب في ظلاله:" أمر لا غرابة فيه؛ فهم يعزلون الجماهير أولاً عن كل سبل المعرفة، ويحجبون عنهم الحقائق حتى ينسوها، ولا يعودوا يبحثون عنها، ويلقون في روعهم ما يشاؤون من المؤثرات حتى تنطبع نفوسهم بهذه المؤثرات المصطنعة. ومن ثم يسهل استخفافهم بعد ذلك، ويلين قيادهم، فيذهبون بهم ذات اليمين وذات الشمال مطمئنين ". وعلى رغم قناعة تلك النوعية من الحكومات ببأس الجماهير وقوتها إذا انتفضت وثارت، وبدلاً من تجنب الخوض في معارك معها هنا وهناك، تجدها وقد دخلت في تنافس مع شعوبها في القوة واستعراض العضلات. وهذا يفسر لك عدم الاستقرار والتوتر الدائمين في تلك الدول والحكومات. أما السلطات الحاكمة في كثير من دول " المؤسسات " التي تتنبه مبكراً إلى قوة الرأي العام أو الجماهير أو الشارع، فإنها تتخذ التعامل الذكي أو السياسي، منهج علاقة مع الجماهير قدر المستطاع، سواء عبر الوعود الدبلوماسية المنمقة الراقية، أو بتنفيذ بعض مطالب الشارع فعلياً، وتتجنب في الوقت ذاته الخوض في مسائل من شأنها إثارة الرأي العام ضدها والتي قد تؤدي إلى عدم استقرارها وأحياناً سقوطها. هذا المنهج الدبلوماسي يضمن لها أن تستمر في سياسة بسط النفوذ، ولكن بشكل ذكي متدرج وهادئ. من هنا نجد أن في الدولة المؤسسية، على رغم أنها لا تختلف كثيراً عن الدول القمعية بنسبة ما في مسألة بسط النفوذ، من مزاياها وجود جماهير واعية بنسبة مقبولة أيضاً، وتكون غالباً ذات قوة وتأثير كبيرين عليها، بحيث يمكنها تحقيق نوع من التوازن بينها وبين حكوماتها إلى أطول فترة ممكنة، والتخفيف من سطوتها، وإن بدت في سلوكياتها وتعاملاتها أنها عادلة. الجماهير قوة كامنة الجماهير، كما يفهم ذلك علماء الاجتماع، قوة كامنة هائلة يمكن أن تتحول إلى ضاربة مؤثرة، لو كانت على قلب رجل واحد، أو بمعنى أدق، لو أنها تتحرك لتحقيق مشترك ما تجتمع الغالبية عليه. فالجماهير، كما في نماذج الثورات في أي مكان بالعالم، هي التي غالباً ما تقرر مستقبلها وتنقلب على حكوماتها، إن رأت منها الظلم والتعسف، ولكن بشرط أن تجتمع على أهداف محددة لا تتنازع بينها، فتضيع قوتها الكامنة وتتشرذم، ويسهل بالتالي القضاء عليها. مما ساعد بعض الدول عبر التاريخ أن تسود العالم أو أجزاء واسعة منه حيناً من الدهر، وجود ذاك النوع من التفاهم بين القادة وشعوبهم. تفاهمٌ كان من مظاهره ألا يجد الرئيس نفسه مميزاً عن رعيته، بل هو يعمل عندهم ولصالحهم. يراقبون أفعاله وأقواله. يسدون النصح والمشورة له، كي يسوسهم بالعدل، ويقودهم إلى بر الأمان، لا يظلمهم ولا يظلمونه. له السمع والطاعة، ما أطاع الله فيهم. يستمع إليهم ويستمعون إليه، " فلا خير فيكم إن لم تقولوها ولا خير فينا إن لم نقبلها " أو نسمعها، كما جاء في قصة الفاروق عمر مع أحد رعيته. بذلك النوع من التفاهم بين الراعي ورعيته، تستمر الدول وتسود وتزدهر، وتنشر الخير لشعبها والشعوب الأخرى المحيطة وربما أبعد. لكن ما إن يدب النزاع والشقاق بين الطرفين لأي سبب من الأسباب، وتنتشر ثقافة الأنانية والفردية في المجتمع، أو ثقافة القمع والترهيب والخوف، فإن الزمن سيتوقف في تلك الدولة لا محالة، حتى تغير ما بها أو تنتظر مآلات غياب العدل وانتشار الظلم حتى يقضي الله أمراً كان مفعولا. [email protected]