13 سبتمبر 2025
تسجيلالمعارك الدينية بين اليمين واليسار في أمريكا لا تأخذ شكلاً صريحاً، ولكنها تتم في صورة جدل حول ما يسميه الأمريكيون "اللياقة السياسية" أو الـ"Political Correctness"، والتي أصبحت أحد جوانب الصراع في السباق الانتخابي الحالي. فالديمقراطيون يتهمون الجمهوريين بأنهم لا يراعون اللياقة السياسية، والجمهوريون من جانبهم يتهمون الديمقراطيين بمخالفة التعديل الأول للدستور الأمريكي، والذي يحمي حرية التعبير والقول. فما هي قصة اللياقة السياسية؟ تعبير اللياقة السياسية، يشير إلى ضرورة أن تكون اللغة المستخدمة في المجال العام غير مسيئة للآخرين، بشكل يضمن للأفراد الحق في المعاملة المتماثلة، ويضمن عدم وقوع تحيز لفظي إزاء أي فرد أو جماعة، حتى لو كان مضمون اللفظ المتحيز ينطبق حرفيا على الطرف المقصود به. وقد تبلور مع الوقت قاموس غير مكتوب للياقة اللفظية يحدد ما يجب قوله وما يجب تجنبه. وفي هذا السياق لم يعد من المقبول أمريكيا أن يستخدم تعبير زنجي أو أسود للإشارة إلى الأمريكيين من أصول إفريقية وإنما صار يستخدم مصطلح الأفروأمريكان، كما نشطت الجماعات المدافعة عن حقوق المرأة، ونجحت في الدفع باتجاه تغيير العديد من المصطلحات التي تستخدم اللاحقة man، مثل chairman،mankind، إلى تعبيرات أخرى أكثر حيادية مثل، chairperson، human kind، وفي مجال الحرية الجنسية تراجعت كلمات مثل homosexual، bisexual، لصالح تعبيرات مثل gay، bi. أما المعاقون ذهنيا فصار يشار إليهم وفق قاموس اللياقة اللفظية بذوي الاحتياجات الخاصة، كما صار يشار إلى المعاقين بشكل عام على أنهم أصحاب تحديات جسدية...إلخ وقد دخل مصطلح اللياقة إلى الخطاب السياسي في الولايات المتحدة في السبعينيات من القرن الماضي، واعتبر في مرحلة معينة مرادفا لخطاب التسامح والتمييز الإيجابي لصالح الفئات الأقل مقدرة، وذلك في مواجهة خطابات الكراهية والتمييز السلبي. ولكن بعد فترة وجيزة بدأ تعبير "اللياقة السياسية" يستخدم على نحو سلبي للتشهير السياسي. فقد بدأ اليمين المحافظ في استخدام المصطلح على نحو هجومي للتنديد بالمعسكر الديمقراطي الذي يسعى من وجهة نظره لتمرير أجندته السياسية تحت راية هذا المفهوم. إذ يعتقد الجمهوريون المحافظون أن تبني الديمقراطيين لفكرة اللياقة السياسية يخدم مواقفهم المراوغة فيما يتعلق بالقضايا الدينية. فالديمقراطيون بشكل عام أقرب إلى العلمنة، والكثير منهم يرفضون إيضاح طبيعة موقفهم من الدين، أما الأكثر صراحة منهم فيطبقون ليبراليتهم على الدين على اعتبار أن تفضيلات الأفراد الشخصية بشأن الأمور الدينية هي أمور تخصهم وحدهم، فالإجهاض، وتحديد النسل، والاختيارات الجنسية، هي أمور تخص أصحابها، ولا ينبغي أن تتدخل الدولة فيها. ويعتبر الجمهوريون المحافظون أن "اللياقة السياسية" هي إستراتيجية مقصودة تم ترويجها بين الأمريكيين خصوصا فئة شباب الجامعات لمنعهم من إدراك الفروقات بين الأنواع، والأديان، وأنساق الاعتقاد، والميول الجنسية الصحيحة من المنحرفة. ويركز الجمهوريون المحافظون على التأثير السلبي لمفهوم اللياقة السياسية على المعتقدات الدينية وطريقة التعبير عنها، فاللياقة السياسية تضع قيودا على اصطباغ الكلام بالصبغة الدينية، على اعتبار أن في ذلك خرق لمبادئ العلمنة السياسية، وانتهاك لمبدأ فصل الكنيسة عن الدولة، على سبيل المثال يمتنع مؤيدو اللياقة عن الإشارة إلى كلمات مثل "الرب"، "الكنيسة"، "الآخرة"، "الإيمان" في خطاباتهم، أما المناسبات الاحتفالية ذات الطبيعة الدينية مثل عيد الميلاد أو الـChristmas فيفضلون الإشارة إليها بعبارة Xmas، مراعاة لمشاعر غير المؤمنين، ومؤخرا دار جدل في الإعلام الغربي حول مدى لياقة استخدام عبارة من أجل الرب for God sake، أيضا لكونها تحمل تحيزا ضد غير المؤمنين، ليس هذا فحسب بل إن البعض قد توقف عن استخدام الاختصارين الشهيرين قبل وبعد ميلاد المسيح، BC، AD، أيضا لما يحملاه من تحيز!. وإذا كانت اللياقة السياسة لدى الديمقراطيين تدفعهم إلى استبدال النسق اللغوي المعتاد وإحلال آخر محله، لتجنب إهانة الآخرين، أو لتجنب استحضار صور ذهنية غير مناسبة عن جماعات بعينها خصوصا الجماعات التي تزعم وقوعها تحت اضطهاد أو تمييز. فإن الجمهوريين يرون أنفسهم أكثر تحررا من هذه الاعتبارات المقيدة لحرية التعبير (من وجهة نظرهم)، ويفخرون بأنهم يتحدثون بما يدور في عقولهم مباشرة، دون أن يخضعوه لرقابة من أي نوع، يريدون بذلك أن يؤكدوا على أنهم الأقرب لقلوب الناس، بوصفهم لا يضعون أقنعة تحول بينهم وبين البوح بما يؤمنون به. ولكن رغم مهاجمة الجمهوريين لمفهوم "اللياقة السياسية" وتأكيدهم على مبادئ حرية التعبير والاعتقاد، فإنهم يمارسون من جانبهم رقابة مماثلة على أنماط معينة من الأفعال والسياسات، لا تقل بحال - بل ربما تزيد- عما يمارسه الديمقراطيون. ففي دراسة نشرتها صحيفة الـ"واشنطن بوست" حول نوعية الكتب التي يرغب الأمريكيون ألا تكون موجودة على أرفف مكتبات المدارس الابتدائية، كان الجمهوريون أكثر تشددا فيما يتعلق بالقائمة التي يرغبون في حظرها، فهم على سبيل المثال يرغبون في حظر الكتب التي تتضمن لغة متحررة والكتب التي تحوي أي إشارة للسحر والكتب التي تتبنى نظرية التطور، والكتب التي تنكر العقيدة المسيحية، والأهم من كل ما سبق يقف الجمهوريون المحافظون بشدة في وجه أي كتب تروج للإسلام، حتى لو كانت غير ذات طابع ديني. إذن اللياقة السياسية، بالنسبة للجمهوريين المحافظين منبوذة فقط من حيث كونها تخل بالأصول الدينية للمجتمع الأمريكي، أما فيما عدا ذلك فإن الجمهوريين يبدون هم أيضا خاضعين لنفس الظاهرة، بل إنها تمتد عندهم لتشمل الرقابة على تفاصيل الإيمان الشخصي، على نحو يناقض ما يدعونه من مناصرة حرية التعبير والتفكير والاعتقاد.