15 سبتمبر 2025
تسجيليُقال إن الحرب دون تلفزيون ليست حربا والحرب دون تلفزيون حدث مجرد، لكن الحرب على الشاشة تعتبر تجربة حية منقولة للملايين في مجالسهم. ففي حرب أمريكا على العراق بدأت الحرب الإعلامية قبل العسكرية وشنت الولايات المتحدة الأمريكية حربا إعلامية واسعة عبر مختلف الوسائل الإعلامية، من صحف ومجلات وإذاعات وقنوات فضائية وصحافة إلكترونية وإنترنت، ضد النظام العراقي. كما نلاحظ من جهة أخرى أن غالبية الدراسات التي تطرقت إلى إشكالية تغطية النزاعات والحروب خلصت إلى أن التغطية اتسمت بالانحياز والتعتيم والتشويه والتخلي عن مبادئ العمل الإعلامي النزيه والملتزم والمتمثل في الموضوعية والحرية. كسابقاتها من الحروب كشفت الحرب على العراق عدة أساطير وأكاذيب رددها الكثير من منظري الديمقراطية وحرية الصحافة وحقوق الإنسان. فكان من أهم وأوائل ضحايا الحرب حرية الصحافة وحياة الصحفيين أنفسهم، حيث خلفّت الحرب مقتل 13 صحفيا ومصورا دفعوا حياتهم ثمنا للكشف عن الحقيقة وتقديم وقائع الحرب كما هي للمشاهدين في جميع أنحاء العالم. الإجراءات والطرق التي استعملتها أمريكا في تعاملها مع الصحفيين والمراسلين ضربت عرض الحائط الأخلاق ومعايير المهنية والحرفية والحرية والاستقلالية الإعلامية. وبكل بساطة طبقت أمريكا مبدأ "من لا ينضم إلينا فهو ضدنا"، أي أنه من لا يلتحق بمجمع الصحفيين بالبنتاجون فهو معرض لمخاطر الحرب، أي بعبارة أخرى قد يموت برصاص الأمريكيين أنفسهم إذا كشف عن بعض الحقائق وبعض الصور التي من شأنها أن تبرز المجازر التي كانت ترتكب في حق الأطفال والمدنيين العزل. نظرية حرية الصحافة التي تتغنى بها أمريكا في كل مناسبة سقطت خلال العدوان على العراق كما سقطت من قبل أثناء النزاعات والصراعات الدولية، وأصبحت الآلة الإعلامية الأمريكية لا تختلف في تبعيتها للسلطة وفي التضليل والتعتيم عن مثيلاتها في أعتق الديكتاتوريات في العالم. وهكذا أصبح التعديل الأول في الدستور الأمريكي والذي يقدس ويؤكد على مبدأ حماية الصحافة والصحفيين من جبروت السلطة وتعسفها واستبدادها من أجل الاستقلالية والموضوعية والحرية أصبح من مصنفات الماضي والأرشيف. فأمريكا حاولت بكل ما أوتيت من قوة أن تسكت كل الأصوات المعارضة للحرب وحاولت كذلك القضاء على كل من يقدم وجهة نظر مغايرة للحرب. هكذا إذن سقطت أسطورة الموضوعية وأسطورة استعراض مختلف وجهات النظر وسيطرت أحادية الرؤية وأن الكلمة الأخيرة عادت لمن يملك القوة والسلطة. فباسم الأمن القومي والمصالح الوطنية الأمريكية ضربت عرض الحائط حرية الصحافة ومبادئ الموضوعية والنزاهة والالتزام والحياد وانتهكت كل الأعراف والقيم والمبادئ التي من شأنها أن تصون حرية الكلمة والصورة والرأي ومبدأ السوق الحرة للأفكار. ففي زمن الحروب والأزمات تفتح معظم المؤسسات الإعلامية أبوابها للممارسات الدعائية وآليات التضليل والتلاعب. فتاريخيا تميز الإعلام بعدم موضوعيته وحياده وكانت حجج الوطنية والمصالح القومية هي مبررات الخروج عن قواعد الممارسة الإعلامية النزيهة والأخلاقية. فمن حرب الفيتنام إلى حرب الجزائر إلى الفوكلاند أيلاند إلى حروب الخليج الثلاث إلى الانتفاضات والحروب العديدة ضد الكيان الصهيوني إلى حرب أفغانستان، تفننت وسائل الإعلام المختلفة في فبركة الواقع بدلا من تغطيته وتقديمه كما هو للرأي العام. ولم يختلف في هذه الممارسة الإعلام الغربي الديمقراطي المتطور عن إعلام الديكتاتوريات والأنظمة السلطوية واستسلم الجميع لإرادة السياسيين وتجار الحروب والأسلحة، ضاربين عرض الحائط بمبادئ الموضوعية وحرية الصحافة والنزاهة والحياد والبحث عن الحقيقة. وما حدث في ميدان الحرب وبؤر التوتر والأزمات هو تحالف صارخ بين السلطة والإعلام. يمكن القول إن المنظرين لممارسة الإعلام في المجتمعات المختلفة وكذلك الدارسين لعلاقة الإعلام بالسلطة والمؤسسات السياسية والاقتصادية فشلوا فشلا كبيرا في وضع معايير ومقومات لشرح سلوك المؤسسات الإعلامية والصحفيين أثناء تغطية الحروب والأزمات. وما يمكن قوله في هذا الإطار هو أن الممارسة الإعلامية في زمن الحروب والأزمات لا تختلف من نظام إعلامي إلى آخر ولا من نظام سياسي إلى آخر وتصبح متشابهة، حيث يتحول الإعلام إلى مزيج من الإعلام والعلاقات العامة والحرب النفسية والدعاية والتلاعب والتضليل والتشويه، سواء تعلق الأمر بالدول الديمقراطية أو الدول الديكتاتورية أو الدول المتقدمة أو الدول النامية أو غيرها من الأنظمة السياسية المتواجدة في هذا الكون. من جهة أخرى نلاحظ أن الممارسة الإعلامية في زمن السلم والظروف العادية تختلف عن زمن الحروب والأزمات، خاصة إذا تعلق الأمر بالدول الديمقراطية والتي لها تقاليد في حرية الصحافة. الالتزام باحترام المهنة والدفاع عنها وحمايتها من كل من يحاول المتاجرة بها أو استعمالها لأغراض غير المصلحة العامة وأغراض المجتمع هي التحديات الكبرى التي تواجه الصحفيين في جميع أنحاء العالم وعندما نقول هنا المصلحة العامة قد نقصد مصلحة الإنسانية جمعاء والبشرية في جميع أنحاء العالم. فالإعلام بإمكانه أن يكون وسيلة سلم وحوار وتقارب بين الشعوب وبإمكانه أن يكون وسيلة دمار ودعاية وتضليل وتشويه يهدّم ويخرّب أكثر مما يبني ويخدم الإنسانية والبشرية جمعاء. ومع الأسف الشديد ما زلنا في بداية القرن الحادي والعشرين نعاني من التضليل والتعتيم والتشويه ومن الصور النمطية والدعاية والحرب النفسية، وأصبح الجمهور يتعرض لرسائل إعلامية ومنتجات ثقافية تجعل من الضحية والمظلوم ظالما وإرهابيا وتجعل من الجلاد مسالما وديمقراطيا ومحبا للأمن والسلام في العالم. وهكذا تدهورت القيم والمبادئ وانحطت الأخلاق وأصبح الجمهور يشاهد صور الأطفال الأبرياء في العديد من دول العالم وهم يتعرضون للقتل والبطش والاستغلال والضمير الإنساني غائب أو مغيّب والآلات والأنظمة الإعلامية التي تحولت إلى أبواق ووسائل دعاية تبرّر التصرفات والسلوكيات الوحشية والهمجية لتجار الحروب والأسلحة. نخلص إلى القول إنه في زمن الحروب والأزمات يحدث تحالف - قد يكون خفيا وقد يكون ظاهرا- بين وسائل الإعلام والسلطة وهذا ما من شأنه أن يجعلنا نقترح نظرية بديلة لنظريات الإعلام الكلاسيكية، تفسر سلوك وممارسات وسائل الإعلام أثناء الحروب والأزمات تحت مسمى نظرية تحالف وسائل الإعلام والحكومة Press Government Coalition Theory، فبغض النظر عن مالك الوسيلة وممولها وبغض النظر عن النظام السياسي والاقتصادي ودرجة الديمقراطية والحرية في المجتمع نجد وسائل الإعلام حسب هذه النظرية، تنحاز كليا لحكومتها في أوقات الحروب والأزمات، سواء تعلق الأمر بالدول الغربية الديمقراطية أو الدول النامية أو الدول الدكتاتورية والأنظمة السلطوية. حيث نلاحظ استسلام وسائل الإعلام استسلاما كاملا للسلطة في عملية صناعة الأخبار وتجميعها وتوزيعها من أجل فبركة وتشكيل وتكييف رأي عام محلي ودولي وفق مصالح وأهداف السلطة. وهذا ما نلاحظه هذه الأيام في تغطية ما يحدث من مجازر في حق الشعب الفلسطيني من قبل الكيان الصهيوني الغاشم، وكأن التاريخ يعيد نفسه وأن التضليل والتشويه والتلاعب أصبحت جزءا لا يتجزأ من العمل الإعلامي.