20 سبتمبر 2025

تسجيل

اغتيال البراهمي

02 أغسطس 2013

وجه الإرهاب الأعمى ضربة جديدة باغتيال المناضل القومي الناصري محمد البراهمي، النائب في المجلس الوطني التأسيسي التونسي والعضو القيادي في «الجبهة الشعبية» (تحالف اليسار والقوميين) محمد البراهمي،أمام منزله بحي الغزالة في ضاحية تونس العاصمة، حيث قام شخصان بإفراغ إحدى عشرة رصاصة في أنحاء مختلفة من جسده قبل أن يفرا على دراجة نارية. ويشكل اغتيال القائد الشهيد محمد البراهمي(58عاماً)، ثاني عملية اغتيال سياسي في تونس منذ سنة 1956. المشهد يذكرنا تماماً، بما حصل مع المعارض اليساري شكري بلعيد في فبراير الماضي، الذي اغتيل بالطريقة عينها، والذي سبب اغتياله صدمة في المجتمع التونسي ودفع رئيس الوزراء التونسي آنذاك، حمادي الجبالي، لتقديم استقالته.وكان البراهمي، يشغل منصب الأمين العام لحركة الشعب ذات التوجه القومي الناصري، التي تعرضت لعملية انشقاق كبيرة بين تيار موالي كليا لحركة النهضة، وتيار يقوده البراهمي، الذي استقال من الأمانة العامة لتنظيم "حركة الشعب" يوم 7يوليو الجاري، واتهم حركة "النهضة الإسلامية" الحاكمة بـ"اختراق" حزبه، وفق ما نقلت وسائل إعلام محلية.وفي اليوم نفسه، أعلن البراهمي تأسيس حزب "التيار الشعبي" ذي التوجه الناصري، والانضمام إلى "الجبهة الشعبية" باستثناء حركة النهضة، هناك شبه إجماع في تونس، بأن حكم النهضة، عرض الأمن الوطني للخطر، وهو الذي ظهر في معالجة قضية الإرهاب الذي تمارسه التيارات الجهادية المرتبطة بتنظيم القاعدة،والذي حوّل تونس إلى قاعدة خلفية لنشاط «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي » وتنظيم «أنصار الشريعة » في كل من تونس وليبيا، وأفسح في المجال لتجنيد الشباب التونسي للقتال في سورية، لا أدري من أجل أي قضية عادلة يقاتل التونسيون هناك؟ وقد ذهب الشهيد شكري بلعيد ضحية هذا العنف السياسي المنظم، إضافة إلى الاعتداءات المتواصلة على مكونات المجتمع المدني الحديث، وأحزاب المعارضة، والنقابات،لاسيَّما على حزب "نداء تونس" الذي كان له النصيب الأوفر من هذه الاعتداءات، باعتبار أن استطلاعات الرأي تشير إلى أنه قوة سياسية صاعدة من شأنها أن تنافس حركة النهضة بجدية في الانتخابات المقبلة. اغتيال الشهيد محمد البراهمي، مثل نقطة تحول في مسار الثورة التونسية التي تعيش اليوم مرحلة الإجهاض بسبب خيبات الأمل المتلاحقة لدى التونسيين من جراء السياسة اللاعقلانية لحركة النهضة التي تحالفت مع الجماعات السلفية التكفيرية، وأنشأت ميليشيات تمارس القتل والإرهاب باسم «رابطات حماية الثورة»، لكي تمارس الحكم على طريقة النظام الديكتاتوري السابق، وتصادر ثورة الشعب التونسي من خلال أساليب غير ديمقراطية استهدفت قادة الأحزاب السياسية المنافسة، وبعض الإعلاميين، والأساتذة الجامعيين، ورموز الحركة النسائية ذات الحضور العريق والفاعل في المجتمع التونسي. الإرهاب الجديد الوافد إلى تونس، يجد حماية حقيقية له من قبل الطبقة السياسية الحاكمة لأنها ترفض محاربته وتمارس معه سياسة الغزل الانتخابي، هذا الإرهاب جاء ليغتال الثورة الشعبية التي قام بها الشعب التونسي، بوصفها ثورة قوّية في صراعها مع النظام الديكتاتوري السابق، بنهجها السلمي وتَفَوُقِهَا الأخلاقي، وبعدالة مطالبها في الحرّية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وقوية بقاعدتها الاجتماعية العريضة التي انخرطت فيها طبقات المجتمع وفئاته وأجياله كافة، وقوية بالتماسك الداخلي للقوى المشاركة في صنع فصولها البطولية، ثم قوية بنفَسها الثوري الطويل الذي لا يكل ولا يتقطع بأثر من عياء. ثورة حافظت على صورتها السلمية والحضارية أمام الرأي العام في الداخل والخارج، وهو ما جعلها تحدث قطيعة تاريخية مع الزمن العربي الذي سادت فيه درجة عالية من العنف السياسي في معظم البلدان العربية، لاسيَّما العنف السياسي ذي الطابع الرسمي بكل صوره العنفية وأشكاله، ولأنها دفعت بالعالم العربي إلى سيرورة إنجاز الثورة الديمقراطية بكل منطوياتها الفكرية والسياسية والثقافية والتاريخية. الإرهاب الجديد في تونس، جزء من الحرب الأهلية العربية المستعرة في سوريا والعراق، والتي تزور مصر واليمن، وتونس. في تونس مؤسسات الدولة تنهار، والمجتمع التونسي مهدد بالتفكك، في ظل الاستقطاب السياسي والأيديولوجي الحاد بين حركة النهضة وحلفائها من التيارات الجهادية والميليشيات التي تمارس العنف السياسي ضد المجتمع المدني،وبين أطياف المعارضة الليبرالية واليسارية. الطبقة السياسية الحاكمة في تونس، لا تريد وضع حد لهذه المرحلة الانتقالية، من خلال إقرار دستور توافقي، والعمل الجدي والمسؤول نحو بناء الدولة المدنية الديمقراطية، ومحاربة العنف السياسي الذي تمارسه أطراف محسوبة على الحزب الحاكم، الذي يرفض لحد الآن مواجهة الإرهاب لأنه بحاجة إلى القاعدة الانتخابية للتيارات السلفية الجهادية التكفيرية.فالإرهاب الجديد أدخل تونس في ليل طويل ليس له فجر قريب، مادام الدستور التونسي لم يتم إقراره بصورة يلبي مطالب الشعب التونسي في الحرية، والكرامة، وتأسيس الجمهورية الثانية على أساس الديمقراطية. تونس بعد الثورة، تعيش في ظل أزمة المرحلة الانتقالية، هذه الأزمة تتوقف على حقيقة أن القديم يموت،أما الجديد: الدستور الديمقراطي التوافقي، والدولة المدنية، والعدالة الاجتماعية، لا يستطيع الولادة، بسبب إفلاس الطبقة السياسية الحاكمة عامة، وإفلاس الإسلام السياسي بخاصة الذي ثبت بالملموس، أنه عاجز أن يحكم في كل من تونس ومصر، وأنه انحرف عن خط الثورة ومطالب الثوار، وخطف الدستور لكي يجعله دستورا "إخوانيا "على طريقة حركة النهضة، وانفرد بوضع قواعد المنافسة السياسية بما يمنع تداول السلطة، وغيب العدل الاجتماعي، وضيق الحريات العامة، وهدد الوحدة الوطنية والعيش المشترك من خلال غض النظر عن ممارسي العنف السياسي من قبل الجماعات التكفيرية والميليشيات، وأهان الشعب التونسي، علاوة على تقليص الديمقراطية إلى مجرد "صندوق انتخاب". في ظل أزمة المرحلة الانتقالية المعلقة، تظهر في تونس مجموعة من الظواهر المروعة من الإرهاب الذي يغتال قيادات المعارضة التونسية، ويهدد باغتيال المزيد من السياسيين،والمثقفين،و الإعلاميين،والصحفيين.وما يجري الآن، هو الوجه القاتم" للربيع العربي" الذي بطبيعته السلمية في كل من تونس، ومصر، أضرّ بـ"القاعدة" وحلفائها على الصعيد الأيديولوجي، لأن الثورات الديمقراطية العربية رسمت معالم طريق مختلفة عن تلك التي وضع أسسها سيد قطب، وتبعه عبدالسلام فرج، ثم الظواهري وغيرهم. فالثورات تؤكد أهمية النزوع السلمي، والدولة المدنية، والانفتاح على العالم، وهي طرق مناقضة، بل معاكسة تماما، لرهانات القاعدة أيديولوجيا وسياسيا. اغتيال قيادات المعارضة في تونس من شكري بلعيد إلى محمد البراهمي، كشف للرأي العام العربي، أن الإسلام السياسي لا يمتلك مشروعاً للحكم في بلدان الربيع العربي. فمنذ وصوله إلى السلطة، أصبح الإسلام السياسي خاضعاً لإعادة نظر من قبل الثورة،والحرب الأهلية والاحتجاجات الشعبية. فمشروع بناء مجتمع تحكمه تعاليم الإسلام يعاني من أزمة، من تونس إلى إيران. فهاهو الرئيس المصري المخلوع محمد مرسي المتحدر من جماعة الإخوان المسلمين يتم إسقاطه من قبل الجيش، بعد مظاهرات حاشدة مناوئة له. ويواجه النظام الإسلامي المحافظ التركي الموجود في السلطة منذ عشر سنوات، أيضا موجة من الاحتجاجات غير المسبوقة. ويستمر النظام الإيراني الأصولي رغم قمعه للحركة الاحتجاجية. وأخيرا، فإن الحرب في سوريا تتحول إلى صراع طائفي.هل يستطيع الإسلام السياسي التغلب على هذه التغييرات؟ الإسلام السياسي يعتبر تاريخياً فاشلاً في إدارة الاقتصاد، لأنه لا يمتلك أي مشروع للتنمية، ففي عهده تراجع الاقتصاد التونسي بشكل مخيف، حيث زادت معدلات التضخم والبطالة وارتفاع الأسعار بمستوى غير مسبوق، في مقابل ارتفاع نسبة من وقعوا تحت خط الفقر، وتدني قدرة الدولة على تقديم الخدمات للمواطنين، بينما استمرت حركة النهضة في معالجة هذا الأمر بالطريقة التي ألفها الإسلاميون طيلة حياتهم، وهي تقديم الصدقات السياسية، وهي مسألة كانت الناس تقبلها منهم حين كانوا في المعارضة، ولكنها لم تكن مرضية على الإطلاق من سلطة تقدمت إلى الكراسي الكبرى تزفها وعود مفرطة زائفة. لما كان الإسلاميون من حركة النهضة يفتقدون إلى أدنى درجة من الكفاءة في إدارة الدولة التونسية، وهي من أرقى الدول المركزية في العالم العربي، وعجزوا عن تسيير أمور الدولة، ولم يعترفوا بغياب هذه الإمكانية عنهم، بل كابروا وتصدروا المشهد الرسمي، ورفضوا فتح أي باب أو نافذة لتعاون أصحاب الكفاءات الحقيقية معهم، وتصرفوا وكأن الدولة أحد مشاريعهم الخاصة، وفشلوا في تحقيق الأمن للمواطنين التونسيين، ورفضوا بناء أجهزة أمنية على أساس قيم الجمهورية والمواطنة، بل عملوا إلى تشكيل أجهزة أمنية موازية بعقلية حزبية ضيقة، تنامت ظاهرة العنف السياسي في تونس بصورة لم تألفها البلاد في تاريخها المعاصر. وأمام مشهد الاغتيال المروع للشهيد البراهمي، قرر «الاتحاد العام التونسي للشغل» تنفيذ إضراب عام اليوم الجمعة 26 يوليو إثر اغتيال البراهمي،وأعلنت «الخطوط الجوية التونسية" استجابتها للإضراب". ووسط هذه الأجواء، دعت «الجبهة الشعبية»، وهي ائتلاف سياسي علماني يضم أكثر من عشرة أحزاب، وكان المناضل الراحل شكري بلعيد أحد أركانها، إلى «الدخول في عصيان مدني سلمي في المناطق كافة حتى إسقاط الائتلاف الحاكم، مجلسًا تأسيسيًّا ومؤسّسات نابعة عنه (حكومة، رئاسة، الخ). المعارضة التونسية لا تريد استنساخ السيناريو المصري في تونس، إنها تريد بكل بساطة تصحيح مسار الثورة التونسية من أجل تحقيق أهداف الشعب التونسي في الحرية، والكرامة، وبناء الدولة المدنية الديمقراطية، وتحقيق العدالة الاجتماعية.