13 سبتمبر 2025
تسجيلكما تنجح الثورات بفضل جهود الثائرين والحالمين بالتغيير من البشر الاستثنائيين، تنجح الانقلابات بفضل جهود "الرجال العاديين"، من أصحاب العقول الراكدة، والأفكار الساكنة، والشخصيات الخاضعة. والرجال العاديون يمثلون ظاهرة لاحظها الجغرافي الأشهر جمال حمدان، وكتب عنها قائلا: "في حين يتسع صدر مصر برحابة للرجل الصغير...، فإنها على العكس تَضيِق أشد الضيق بالرجل الممتاز، إذ لا مكان له [فيـها]، وأفضل مكان له خارجها،.... فشرط النجاح والبقاء في مصر أن تكون اتباعيًّا لا ابتداعيًّا، تابعا لا رائدا، محافظا لا ثوريا، تقليديا لا مخالفا، ومواليا لا معارضا" (شخصية مصر ص 539).والواقع أن هذا النوع من الرجال "العاديين" هم وقود الأنظمة المستبدة بشكل عام، ليس في مصر فقط ولكن في أي نظام قمعي، فهم مكون وظيفي من مكوناته، يدخلون معه في علاقة مقايضة، فيقدمون سكونهم وخضوعهم، مقابل قيام الأخير بحمايتهم من أخطار ممارسة الحرية التي يسميها بالفوضى. وعندما نشبت الثورة المصرية استهدفت النظام، ونسيت الوقود الذي سمح له بالبقاء في الحكم لثلاثين عاما؛ نسيت الرجل العادي، فلم تحاول أن تغير قناعاته، أو أن تقوّم وعيه، فظل نافرا من الثورة وممن قاموا بها، ومقتنعا أن النظام الذي قامت ضده لا يستحق هذه المعاملة. وبسبب غفلة الثورة عن الدور السلبي للرجل العادي، نجح الانقلاب، وانبعث النظام القديم، وعادت مصر إلى أسوأ مما كانت عليه. الدور السلبي للإنسان العادي هو ما يدفعنا إلى محاولة تلمس خصائصه الشخصية وسماته النفسية، في محاولة لفهم الدافع الذي أدى به للعمل على إعادة الأوضاع السلبية، التي ما قامت الثورة إلا بهدف تخليصه هو شخصيا منها.بشكل عام الرجل العادي هو من لا يهتم بالتفكير السببي، ويربط بين الظواهر على نحو متعسف، ولا يكون قناعاته من خلال التدبر، ولكن من خلال تسليم عقله لمن حوله (خصوصا منابر الإعلام)، لتتكون لديه بعد ذلك وجهة نظر هي خليط من تناقضات متنافرة، لا يبدو حريصا على حلها، فهو متصالح مع تحيزاته، ومتعايش مع تناقضاته.والرجل العادي لا يرى جوانب إشكالية في أي ظاهرة تحيط به، فالواقع مفهوم، ولا يحوي أي غموض، خاصة أن هناك دائما مؤامرة ومتآمرون، يمكن من خلال الإحالة إليهم تفسير كل غامض. والرجل العادي، لا يستحي من جهله، أو هو لا يعترف به، فهو يفترض أن المعرفة صفة تكوينية، وليست مكتسبة، ومن ثم فإنها كامنة في عقله، وليست بحاجة إلى البحث عنها. والرجل العادي لا يحترم التخصص، ويرى أن من حق كل إنسان أن يدلي بدلوه في كل ما يعرض له من قضايا وموضوعات، حتى لو لم يكن لديه أي معلومات بشأنها، وحتى في حضرة المتخصصين، فهو لا يؤمن أصلاً أن لدى هؤلاء ما يستحق الإصغاء، فالخبرة يمكن تحصيلها في لحظة، وما البحث والقراءة سوى نوع من التقعر الذي لا تحتاجه أغلب المشكلات، فكل شيء يمكن أن يفهم بالبداهة، وكل مظاهر الغموض تنجلي أمام الفهم الفطري، وحتى إذا اضطر "الرجل العادي" إلى أن يبحث أو يقرأ فإنه يظل محكوما بأطر مرجعية في ذهنه لا يحيد عنها، فيعيد تسكين ما يقرأه تحت العناوين التي يؤمن بها.والرجل العادي غير موهوب، ولكنه لا يعترف بتضاؤل نصيبه من الموهبة، وهو يستعيض عن عدم موهبته بإضفاء نوع من الأهمية والخطورة على عمله، لكي يوحي للناس بأن ما يقوم به لا يمكن أن ينهض به غيره، ولذا تراه مقتنعا بأهمية عدم إفشاء أسرار عمله للآخرين، لكي يضمن ألا يتم التفريط فيه إذا ما تواجد من هو أكفأ منه، ولكي لا يدخل في منافسة قد لا يتاح له النجاح فيها. والرجل العادي لا يستنكف من أن يلعب دور الكومبارس، فهو يفهم جيدا أن قدراته لا تؤهله لغير ذلك، ويفهم أن أدوار البطولة محجوزة لآخرين، وأقصى طموحه أن يتم استدعاؤه ليحتفي بإنجازات رؤسائه، أو ليثني على حكمتهم وبعد نظرهم. والرجل العادي وهو يلعب دوره المهمشي، يمارسه بحماس مبالغ فيه، حتى لو لم يحظ بالتقدير، فحماسه في خدمة السيد يتحول مع الوقت إلى حماس أيدولوجي. ولهذا يمثل "الرجل العادي" كنزا استراتيجيا لأنظمة القمع، التي ترعى أنصاف الموهوبين أو العاطلين من الموهبة تماماً، فهؤلاء لا يمتلكون تطلعات، ولا يحملون أحلاما بالتغيير، ولا يطالبون بثورة في أي قطاع، بل هم أحرص الناس على بقاء الأوضاع على ما هي عليه، بما يضمن غياب التنافسية، ومن ثم غياب التهديد لمواقعهم التي لا يستحقونها. وكما تحتفي أنظمة القمع بالرجال العاديين، فإنها تختار بعضهم لتصنع منهم رموزا يتصدرون الإعلام، فيعيدون إنتاج أفكار الركود، التي لا تشحذ همما، ولا تقدم قدوة، وإنما تملأ أذهان الشباب بكل ما يصنع منهم ومن مجتمعهم مجتمعا عاديا مزهوا بركوده، مطمئنا إلى عجزه، غير راغب أو قادر على منافسة غيره. وبسبب ظاهرة الرجال العاديين يتجمد المجتمع في إطار حالة من الطفولة السياسية، حيث يقتنع الجميع أنهم خلوا من القدرات، وأن ثمة شخصا واحدا فقط لديه كافة القدرات والإمكانات، وهو شخص الزعيم، الذي لا يمكن أن تكون للمجتمع أي حياة من دونه، وبسيادة هذا النموذج تنجح الانقلابات وتترسخ أقدام أنظمة القمع، وبمواجهته ومواجهة ما يمثله من خصائص تكون الثورة الحقيقية.