13 سبتمبر 2025

تسجيل

الجزائر "الناجية" من عدوى "الربيع العربي"

02 يوليو 2012

يوم الأربعاء الماضي انشغلت بريطانيا بحدث بسيط في ظاهره لكنه اعتبر تاريخياً وعميقاً في مغزاه: مصافحة هي الأولى من نوعها بين الملكة إليزابيث الثانية وأحد قادة "الجيش الجمهوري الأيرلندي" مارتن ماك غينيس الذي أصبح نائب رئيس الوزراء في أيرلندا الشمالية بفعل اتفاق السلام الذي أنهى صراعاً طويلاً وأمكن التوصل إليه بعد أعوام من التفاوض. ورغم أن المشاعر لا تزال ثقيلة بسبب عقود من المواجهات الدامية، بل رغم اليقين بأن التوصل إلى مصالحة حقيقية سيحتاج إلى أجيال، إلا أن تلك المصافحة بين الملكة وأحد الذين عملوا من أجل تقويض سلطتها وضعت تحت عنوان تجاوز الماضي والتطلع إلى المستقبل. بعد أيام تحتفل الجزائر بالذكرى الخمسين لاستقلالها عن الاستعمار الفرنسي الذي دام مائة واثنين وثلاثين عاماً، ولم يقتلع إلا بثورة مسلحة بالغة الكلفة بشرياً، إذ جعلت الجزائر "بلد المليون شهيد"، لكن نصف القرن الذي مضى لا يبدو كافياً للحكم بأن الجزائر تخطت المرحلة الاستعمارية التي استمرت حاضرة إلى اليوم في مجمل الخطاب السياسي والوطني، وذلك رغم تعاقب الأجيال، ورغم جهد بذل لتصفية الاستعمار سياسياً واقتصادياً ولا شك أن المقارنة قد تكون خاطئة وغير منصفة بين الجزائر وأيرلندا، إلا أن الصدفة فرضتها، ففي وقت قياسي انتقل الأيرلنديون إلى الوضع الجديد، وهم يجدون الخطى لبناء مستقبلهم معتبرين أنهم حصلوا على أفضل الممكن، وهو أدنى بكثير من طموحاتهم، لأنهم باقون بشكل أو بآخر تحت العرش البريطاني، أما الجزائر فانتزعت استقلالاً ناجزاً ومستحقاً بفضل التضحيات الضخمة التي قدمها أبناؤها. وإذ بقيت الجزائر بالنسبة إلى فرنسا جرحاً أظهر لها بعضاً من وجوهها القاسية بل الوحشية التي ترغب في نسيانها، فإنها نجحت إلى حد ما في تخطي ما حصل، معتمدة تحديداً على عامل الوقت، غير أنها مخافة عودة الماضي وبشاعاته إلى الواجهة، أحجمت عن كشف أرشيف تلك الفترة، لذلك بقيت "المصالحة"، بينها وبين الجزائر بمثابة مشروع مؤجل، رغم العلاقات القائمة وآلاف "المصافحات"، ووجود عشرات الآلاف من الجزائريين الذين يعيشون لديها، إذ يبدو الأمر وكأن حاجزاً نفسياً سميكاً وعالياً أقيم تلقائياً بين البلدين ومنعهما من "تطبيع" الوضع نهائياً بينهما. بين البلدان التي استعمرتها فرنسا ثم انسحبت منها، تبقى الجزائر حالاً خاصة، فحكومتها حريصة على بروتوكولات الندية مع مستعمرها السابق، بل أكثر حرصاً على الطلاق مع إرثه، وبالأخص الثقافي منه. أما فرنسا فظهرت فيها مئات الكتب التي تطمح للقول إنها تعلمت من التجربة واستوعبتها، في حين أن السؤال الذي طرح نفسه دائماً كان: ما الذي فعلته الجزائر باستقلالها؟ بداية لم تكن مرحلة الانتقال من الثورة إلى الدولة مريحة وبناءة بسبب الصراع على السلطة بين أبناء الثورة وعدم اتضاح الرؤية بالنسبة إلى شكل الدولة وملامحها، ولابد من الإشارة إلى أنه كان لابد من إقامة كل شيء من نقطة الصفر. لم تكن الأعوام الثلاثة الأولى مع أحمد بن بلة سوى مرحلة مضطربة، وقليلة الإنجازات، وبعد استيلاء هواري بومدين على الحكم وظهور المداخيل النفطية كان اعتناق النموذج الاشتراكي نعمة ونقمة في آن، إذ حاول تحقيق مشروعات تصنيعية وتنمية البنى التحتية وإقامة نظام للعدالة الاجتماعية، لكن شدة الحكم سوغت له ترسيخ الأمن وتعزيز الإدارة العسكرية للبلاد على حساب الحريات التي لم تعتبر من الأولويات. بعد وفاة بومدين، اتضح أن الحكم متجه للاستمرار في كنف الجنرالات والتسويات والمساومات التي يجرونها في ما بينهم، حاول الشاذلي بن جديد إدخال تحسينات في اتجاه اقتصاد السوق، كما حاول دفع النظام نحو الانفتاح داخلياً، إذ عادت مسألة الحريات تطرح نفسها قبل أن تتفجر في أحداث أكتوبر 1988م، التي اعتبرت "ربيعا" جزائريا باكرا، ما لبث أن توج باكتساح الإسلاميين الانتخابات أواخر 1991 أوائل 1992 فألغى العسكر النتيجة وتصرفوا كما لو أنها لم تكن أصلاً، وبذلك انتهى "الربيع الجزائري" إلى ما يشبه الحرب الأهلية ودخلت البلاد في ما بات يسمى "عشرية الدم" التي استغرقت معظم التسعينيات وحصدت نحو مائتي ألف قتيل، اقتصر الهم الوطني خلالها على استعادة الأمن، وتأكد أن العسكر هم الحكام الفعليون سواء في الواجهة أو من وراء الستار، وبدا أن مرحلة عبدالعزيز بوتفليقة استطاعت أن تمنح العسكر فرصة لإعادة تشكيل المشهد السياسي بحيث يبدو كأنه يحقق تعددية تحت السيطرة والمراقبة بالتوازي مع استتباب نسبي للأمن، وفي إطار هذه "التعددية" جرى إشراك أحزاب إسلامية في الانتخابات وأحياناً في التركيبات الحكومية، لكن، رغم ذلك بقيت الهيمنة لحزب جبهة التحرير الوطني الذي كان وحيداً في دولة الحزب الواحد، واستمر في ظل نظام التعددية. لم تكن هذه مسيرة تتناسب مع مستوى التضحيات والطموحات، خصوصاً أن الجزائر ليست بلداً فقيراً، لكن ثروتها كانت ولا تزال إما ضحية سوء التخطيط أو سوء الإدارة والتوزيع، فضلاً عن الفساد الممأسس. ولم يكن هناك توازن بين أولوية الإنفاق على التسلح والواجبات الملحة للتنمية، لذلك نشأت هوة عميقة بين "الدولة- الجيش" والمجتمع ليس أدل عليها من النسبة المنخفضة لإقبال الناخبين على الاقتراع، لأنهم يعتبرون ببساطة أن شيئاً لا يتغير، لا يتقدم، بين انتخابات وأخرى. وإذ يفاخر المسؤولون بأن عدوى "الربيع العربي" لم تصل إلى الجزائر إلا بعوارض سطحية، فإنهم يعترفون بعيداً عن أضواء الإعلام بأن البلاد تعاني من أمراض عضال مزمنة لا تنفك تعتمل في أعماقها ولا أحد يعرف كيف ومتى يمكن أن تنفجر. ورغم مساع دائبة لإحداث إصلاحات إلا أنها تحاذر الاقتراب من الملفات التي يديرها الحكام الفعليون، أي العسكر، وهي تتناول تقريباً مختلف المجالات.