19 سبتمبر 2025
تسجيلسيبدأ البرلمان التركي دورة انعقاده بعد إجراء الانتخابات النيابية قبل أكثر من أسبوعين،بغياب أكثر من أربعين نائبا. الخبر بالتأكيد ليس عاديا وليس طبيعيا بعد انتخابات في بلد تطورت التجربة الديمقراطية فيه كثيرا. ومنشأ الأزمة الحالية هو إسقاط اللجنة العليا للانتخابات فوز المرشح الكردي خطيب دجلة بسبب أن المحكمة رفضت الاعتراف بنجاحه لأن عليه أن يمضي ثلاث سنوات إضافية في السجن بتهمة دعم الإرهاب. أيضا حكم القضاء بعدم إطلاق سراح سبعة آخرين من الأكراد والشعب الجمهوري والحركة القومية لوجودهم في السجن وبتهم متعددة لكن من دون أن تسقط اللجنة العليا فوزهم. لكنهم سيكونون غير قادرين على ممارسة مهنتهم الجديدة لأنهم في السجن ولن يقسموا اليمين الضرورية لذلك. تطرح المشكلة الناشئة أسئلة حول آليات النظام الديمقراطي في تركيا إذ كان على اللجنة العليا للانتخابات في الأساس أن ترفض طلب ترشيح هؤلاء ما داموا محكومين ومسجونين ولا تتوفر لديهم شروط العضوية البرلمانية. وبالطبع هذا يطرح تحديا أساسيا أمام الحكومة وحزب العدالة والتنمية بضرورة الإسراع في إعداد دستور جديد يتضمن تنظيفا شاملا لكل القيود على الحريات السياسية والفكرية. وهذا، كما دعا الرئيس التركي عبدالله غول، من مسؤولية البرلمان. ولا شك أن إعداد دستور جديد سينقل تركيا من مرحلة إلى مرحلة ويسهّل أمامها الدخول إلى الاتحاد الأوروبي ذلك أن إعداد دستور جديد هو مطلب أوروبي. غير أن مسألة إسقاط عضوية خطيب دجلة لها وجه آخر هو الأهم. فالمشكلة ليست في بعض الثغرات الدستورية والقانونية التي يمكن أن ينفذ منها أعداء الديمقراطية، بل في أن هناك مناخا لا يريد لتركيا أن تكون دولة حديثة تحترم الهويات وحقوق الأقليات على اختلاف أنواعها. ليست المشكلة بين خطيب دجلة واللجنة العليا للانتخابات بل في أزمة انعدام الثقة المتبادل بين الأتراك والأكراد وذلك المسار الطويل المثقل بالكراهية والإنكار والدم والهجرات. ذلك أن الدولة التركية لم تنجح بعد منذ تأسيسها في العام 1923 في أن تؤسس دولة المواطنين المتساوين. بل إن الايديولوجيا الرسمية التي اتبعها مصطفى كمال أتاتورك كانت نموذجا في إنكار الهوية الكردية وبممارسات غير إنسانية. ورغم تعاقب الحكومات والتيارات السياسية على السلطة فإن أي تطور إيجابي لم يتحقق على صعيد الاعتراف بالهوية الكردية. وقد أعطي الكثير من الأهمية لخطوات حصلت على عهد الرئيس الراحل طورغوت أوزال في الثمانينيات ومطلع التسعينيات تخفف القيود على التحدث باللغة الكردية. والأمر نفسه انسحب على بعض خطوات حصلت في عهد حزب العدالة والتنمية في السنوات الأخيرة. غير أنها كلها لم تلامس جوهر المطالب الكردية. بل إنه بعدما كان رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان قد اعترف في العام 2005 بوجود "قضية كردية" في تركيا عاد وأنكر وجود هذه القضية قبل الانتخابات الأخيرة حاصرا إياها بأنها مشكلة مواطنين من أصل كردي. يكرر المسؤولون الأتراك أهمية حل المشكلة الكردية والرئيس غول قال إنه من دون حل هذه المشكلة فلا استقرار في تركيا. لم تنته المشكلة الكردية في العراق إلا بحل الفيدرالية ولم ينته الصراع بين الاتنيات والأديان في السودان إلا بانفصال جنوبه عن شماله. وفي غياب ذهنية تحمل مشروعا حديثا ومعاصرا يساوي بين الجميع ويعترف بكل مكونات المجتمع الثقافية والإيمانية فإن "الطلاق" بات الحل الذي يستسهله المعنيون وتدفع إليه الدوائر الغربية والإسرائيلية. بعد اعتقال عبدالله أوجالان زعيم الأكراد في العام 1999 لاحت فرصة تاريخية لإنهاء القضية الكردية على أساس وحدة الأراضي وخارج أي صيغة تقسيمية وهو ما دعا إليه أوجالان. لكن اعتقاله شجّع التيارات الشوفينية في تركيا على المضي في سياسات الإنكار. اليوم رفع الأكراد سقف مطالبهم إلى الحكم الذاتي وضمانات في الدستور الجديد لهويتهم،فضلا عن المطالب المزمنة بالتعليم باللغة الأم. وفي غياب البحث الجدي بين السلطة والأكراد حول هذه المطالب فإن حوادث "صغيرة"،مثل إسقاط عضوية خطيب دجلة، ستكون كافية لوضع تركيا أمام مخاطر عراقية أو سودانية.