11 سبتمبر 2025
تسجيليتغنى الكثير من المختصين والباحثين والمنظرين في شؤون الإعلام أن الصحافة هي السلطة الرابعة التي تراقب السلطات الثلاث في المجتمع: السلطة التشريعية والسلطة القضائية والسلطة التنفيذية. ومنهم من رأى أن الصحافة هي بارومتر الديمقراطية وهي منبر الفقراء والمساكين والضعفاء ومن لا حول ولا قوة لهم، وهي الوسيلة الاستراتيجية للكشف عن الحقيقة واستقصاء الواقع حتى سماها الأمريكيون ب “كلب الحراسة"، لكن واقع القرن الحادي والعشرين وواقع الحرب على الإرهاب يقولان إن الصحافة تحوّلت من السلطة الرابعة إلى سلطة تزييف الواقع و تضليل الوعي وفبركة الأحداث والوقائع وفق ما تمليه عليها قوى المال والأعمال والسياسة. فوسائل الإعلام اليوم، في عصر الفضائيات والإنترنيت والمجتمع الرقمي، أصبحت تكيّف الأحداث والوقائع وفق القوى التي تتحكم في النظام، سواء كان ذلك النظام محليا أو عالميا. لقد كشفت الحرب على العراق الأخطاء والهفوات والتجاوزات الخطيرة التي وقعت فيها وسائل الإعلام في مختلف أنحاء العالم حيث أنها انساقت وراء أقوال وآراء أباطرة السياسة وتجار الأسلحة والحروب بدون أن تستقصي الواقع وتحاول أن تكشف عن الأساطير و الأكاذيب و غيرها من آليات التضليل والتزييف التي تستعملها كبريات وكالات الأنباء ووسائل الإعلام العالمية. يظن الكثيرون أن العلاقات العامة بإمكانها أن تفعل كل شيء وأن تغير المواقف والآراء والصور. وأن الأمر يتعلق بمجرد استعمال استراتيجيات اتصالية وحملات إعلامية . هذا الاعتقاد في حقيقة الأمر ناجم عن فهم خاطئ للعلاقات العامة، حيث أن هذه المهنة، مع الأسف الشديد، هي من أكثر المهن في العالم معاناة من سوء الفهم وسوء الاستعمال. فالعلاقات العامة التي تقوم على المهنية والتميز والالتزام والأخلاق تعتمد في فلسفتها على الأفعال وليس الأقوال، كما أنها تعتمد على الصدق وعلى احترام الجمهور والرأي العام كما أنها تتجنب الوعود الكاذبة و الصور الفضفاضة والكلمات الرنانة التي قد تكون أكبر بكثير من حجم المنظمة أو المؤسسة التي تحاول تقديمها وتسويقها للجمهور. كما أنه يوجد اعتقاد سائد في العديد من دول العالم أن العلاقات العامة هي "دعاية" وأنشطة اتصالية تؤمن بمبدأ الغاية تبرر الوسيلة. وهذا الاعتقاد خاطئ ولا أساس له من الصحة لأن الوظيفتين الرئيستين للعلاقات العامة هما بناء الصورة وإدارة السمعة. فمنطقيا العلاقات العامة لا تستطيع بناء الصورة بالاعتماد على الدعاية وبتضخيم الأحداث والمعلومات وغير ذلك لأن الرأي العام لا يقتنع إلا بالحقائق والوقائع والإحصائيات والأدلة والحجج والبراهين. مارست الإدارة الأمريكية ما تسميه ب “الدبلوماسية العامة" لتجميل صورة الولايات المتحدة في العالم بعد ما اكتشفت بعد 11 سبتمبر أن صورتها سلبية جدا ومعظم شعوب العالم لديها فكرة سيئة عن ممارسات الولايات المتحدة في العالم. الأمر الذي أدى بالإدارة الأمريكية إلى استئجار أقلام في دول عديدة من العالم لإبراز دور أمريكا في محاربة الإرهاب والتخلص من الدكتاتوريين أمثال الرئيس صدام حسين وغيره. أما داخل الولايات المتحدة الأمريكية فلقد استعملت مختلف أساليب القمع وكبت الحريات العامة بحجة الحرب على الإرهاب وشملت هذه الطرق والسبل حتى من يتظاهر للدفاع ومناصرة قضايا كالبيئة وحقوق الإنسان والحريات الفردية وحرية الصحافة والتعبير. إدارة الرئيس بوش على سبيل المثال استعملت طرقا ووسائل مختلفة وعديدة للوصول إلى الرأي العام من أهمها إخفاء الحقائق والتركيز على ما يدعم سياستها وقراراتها. ومن أهم الوسائل التي استعملتها إدارة بوش حملات علاقات عامة سرية لكسب ولاء وسائل الإعلام الأمريكية والأجنبية للترويج لسياساتها. فإدارة بوش كانت تبذل قصارى جهودها لإقناع الشعب العراقي والرأي العام الأمريكي والعالمي أن الأوضاع في العراق أحسن بكثير عما كانت عليه في عهد صدام. والواقع بطبيعة الحال غير ذلك تماما. فكل وسائل الإعلام المأجورة والموالية للبيت الأبيض أصبحت تتغاضى عن الواقع اليومي المر الذي يعيشه الشعب العراقي حيث تدني مستوى الخدمات بمختلف أنواعها ناهيك عن انعدام الأمن وغلاء المعيشة والجرائم ...الخ. و بدلا من كل هذا ركزت وسائل الإعلام على الأخبار الإيجابية و التي تزخرف وتلون صورة أمريكا محليا و عالميا وخاصة في الوطن العربي وهذا بإنشائها راديو "سوى" وتلفزيون "الحرة". كما لجأت إدارة بوش إلى إنشاء ما يسمى بإدارة "العمليات الإعلامية" لإنتاج مقالات وتقارير صحفية تكتب باسم كتاب عراقيين لتضليل الرأي العام. هذه الإدارة والتي تنشط تحت مظلة البنتاجون خصص لها مئات الملايين من الدولارات من أجل نشر الدعاية السياسية والخطاب الإعلامي الإيجابي والموالي لأمريكا من أجل إخفاء السلبيات والتركيز على الإيجابيات. في حربها على الإرهاب وغزوها لأفغانستان و العراق جندت إدارة بوش إمكانيات كبيرة لتجميل صورتها في العالم كما جندت عددا كبيرا من الصحفيين و استخدمت وسائل الإعلام كوسائط دعائية للحكومة. وبذلك جندت وكالة المخابرات المركزية عددا لا يستهان به من الصحافيين في عملية التضليل والتبرير والتلاعب الإعلامي من أجل كسب الرأي العام ومن جهة أخرى ومقابل التقرب وكسب ود الصحافيين، استعملت إدارة بوش إجراءات أخرى للتخلص وإبعاد الصحافيين الجادين المعروفين بالتزامهم بقضايا الجماهير، وكانت هذه الطريقة تستخدم في المؤتمرات الصحفية للرئيس بوش حتى لا يتم إحراجه بأسئلة جدية ومبنية على معطيات وحقائق من الميدان. ففشل أمريكا في حربها على الإرهاب عملت المؤسسات الإعلامية الكبيرة على تبريره وتقديمه للرأي العام سواء في أمريكا أو في العالم على أنه نجاح. اشتهرت أمريكا بانتقادها الموجه للدول السلطوية وللاتحاد السوفيتي سابقا بسبب سيطرتها على وسائل الاعلام والتحكم فيها كما تشاء، وأكثر من ذلك تسخيرها لتقديم الواقع كما تريده السلطة وليس كما هو. المتتبع لحرب أمريكا على الإرهاب يلاحظ أن إدارة بوش أصبحت تتعامل مع وسائل الإعلام كالدول الشمولية وأصبحت تتعامل مع السلطة الرابعة وحرية الصحافة وحرية التعبير وكأنها الاتحاد السوفييتي بعد الحرب العالمية الثانية. ففي ظل إدارة بوش أصبح الصحفيون الأمريكيون عملاء لحكومتهم، بدلا من مراقبتها والوقوف عند تجاوزاتها واستقصاء الحقيقة والمساءلة حول كل التصريحات والتقارير، أصبحوا يهللون ويصدقون كل التقارير وكل ما يصرح به السياسيون والجنرالات. فوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية استطاعت ومن أجل كسب الحرب الإعلامية الموازية للحرب على الإرهاب تجنيد العديد من الصحفيين واستكتابهم لتزييف الحقائق وتضليل الرأي العام وتقديم ما يخدم سياسات إدارة بوش وتوجهاتها حتى وإن كانت على خطأ. قالت صحيفة نيويورك تايمز في هذه الفصيلة من الصحافيين ما يلي: "تكفي ضغطة واحدة على الزر لتعزف تلك الأبواق ولتصبح أداة لأوركسترا الدعاية بأية لغة وفي أي بلد من بلاد العالم طالما أن مزاج السي آي أيه يتقبل الاستماع إليها. ويدعم تلك الأبواق أوركسترا كبيرة من الصحافيين". فإدارة بوش لم تقتصر على "شراء" الصحافيين الأمريكيين بل تخطت ذلك إلى أنحاء العالم حيث أشترت الأصوات والعملاء من الصحافيين والمؤسسات الإعلامية لإسماع صوتها وإسكات أي صوت من شأته أن ينتقد الولايات المتحدة الأمريكية. فهل نجحت أمريكا في تحسين صورتها في العالم، طبعا لا لأن تحسين الصورة لا يتحقق عن طريق شراء الأقلام والذمم والتضليل والتشويه وتأجير وكالات العلاقات العامة. فهل شراء الذمم والأقلام المأجورة سيحقق لبعض الدول ما تصبو إلى تحقيقه بغير حق ولا منطق ولا قانون؟ التاريخ يقول لا ، مع الأسف الشديد الممارسات ما زالت تتوالى وتتكرر وما حدث مؤخرا في المنطقة يشير إلى أن البعض لم يستفد من دروس الآخرين ومن التجارب المخزية.