15 سبتمبر 2025
تسجيلهل تجد اليوم من يتجرأ مثلاً ويتحرش بالولايات المتحدة أو الصين أو روسيا؟ بالطبع لن تجد أحداً، يحسب خطواته وسياساته ويدير دولته بحكمة ووعي، يتحرش بتلك القوى وما شابهها من قوى أخرى في هذا العالم. لماذا؟ لأنها دول متمكنة وصلبة في قوتها العسكرية والاقتصادية والعلمية وغيرها من قوى ومجالات عديدة، وصارت تعززها بشكل مستمر بالجديد والمتطور، كي تكون لها كلمتها على الصعيد الدولي، أو إن شئت القول: لتفعل ما تشاء دون كثير اعتبار لرأي ما يسمى بالمجتمع الدولي، أو القوانين الدولية، كما الحاصل الآن وأبرزها العدوان الهمجي الصهيوني المستمر، والمدعوم أمريكياً وغربياً على أهلنا في غزة. أليس هذا هو الواقع الذي نعيشه؟ لن أبالغ إن قلت بأن الآخرين من غير ملتنا، كأنما درسوا واستوعبوا آية (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) أكثر منا نحن أمة محمد، بل وتعمقوا في فهم معانيها ومقاصدها، حتى صارت دولهم مرهوبة الجانب، لها مكانتها وتقديرها في العالم. بينما وسوس شياطينهم لنا بأن الاقتداء بهم في المسلك نفسه هو دعم وتخطيط لإرهاب، بالمعنى والصورة الخبيثة التي رسمها بوش ومن بعده، حتى صار كثيرون منا كالببغاء يردد الكلمة بالفهم الأمريكي، فيما المعنى القرآني لكلمة (ترهبون) أوضح من أن نشرحه ويعني (أن تعد العدة والقوة لترهب أعداءك من التطاول أو الاعتداء عليك). هكذا بكل وضوح. فأين نحن من هذا الفهم؟ ولماذا استوعبه الغرب ولم نستوعبه نحن أصحاب سورة الأنفال؟! الغرب اليوم، بعد أن صدّع رؤوسنا بقيمه ومبادئه طوال عقود عديدة، وجدناه في أول اختبار حقيقي مهدد لمصالحه، أو مصالح رموزه ومؤسساته الاقتصادية المنتفعة الانتهازية - إن أردت دقة المعلومة والوصف - يضع كل تلكم القيم والمبادئ جانباً، بل ويكشّر عن أنيابه في صورة فاضحة بشعة. هذا الغرب منذ أن تمكّن من بعد الحرب العالمية الثانية تحديداً، وعلى رأسه الولايات المتحدة، صار يتحرك بمنطق القوي ذي البأس في هذا العالم، الذي هو من وضع نظامه وفرضه على الجميع، سواء أكان مقبولاً أم مرفوضاً من الغالبية البشرية. الغرب ومنطق الاستبداد منطق الغرب هذا دفعه مبكراً للتحرك وفق ما تقتضي مصالحه، لا يهمه إن كانت تحركاته تتوافق أو تتعارض مع غيره، حتى وإن بدا ظاهرياً أنه يسير وفق أو ضمن منظومة واحدة هي الأمم المتحدة، والتي هو نفسه من وضع أسسها ونظمها وقوانينها لتخدمه أولاً قبل غيره، قبل أن تنهض الأمم الأخرى في قادم السنوات ! ولعل أبرز أمثلة تسلط الغرب على الأمم المتحدة، أو إن شئت القول: التسلط على العالم غير الغربي، هو حق النقض أو الفيتو، الذي يملك الغرب ثلاثة أصوات من أصل خمسة ! وبهذا الحق، قام ولا يزال يقوم، بإجهاض وتضييع حقوق العباد والبلاد. الغرب إذن يتحرك بناء على مصلحته وليس مصلحة آخرين - وليس في ذلك ما يعيب من الناحية النظرية – فإن قوته في غالب المجالات الحياتية تسمح له باتخاذ القرار المطلوب لتحقيق مصالحه، بل وتنفيذه باقتدار أيضاً، ولا عيب في ذلك، ما لم يكن استبدادياً. فنحن كأمة مسلمة، كنا في زمن سابق، حين كانت لنا دولة واحدة مرهوبة الجانب، نتحرك ونحمي ديننا ومصالح المسلمين أينما كانت، ولكن وفق ضوابط من الدين والأخلاق والقيم، دون استبداد، إلا ما ندر وصدر عن البعض القليل.. فليس عيباً أن تحمي مصالحك بكل ما أوتيت من قوة، دون استبداد وظلم. إنّ العيب الذي أقصده في مسألة التحرك بقوتك لحماية مصالحك، أن يكون التحرك دون ضوابط أو أخلاقيات، وهذا هو الحاصل قولاً وفعلاً عند الغرب منذ أن تمكن إلى يوم الناس هذا، رغم حرصه إظهار نفسه للعالم أنه صاحب مبادئ وقوانين وقيم.. لكن مع تزايد الأحداث في العالم، انكشفت كل البواطن أو المساوئ التي حرص هذا الغرب على ألا تظهر علانية. ولعل طوفان الأقصى كشف ما تبقى من سوءاتهم للعالم كله. إذن لا عيب أن تتحرك وفق مصالحك، وتعد القوة اللازمة لذلك إن كان على أساس من العدل واحترام حقوق الآخرين في العيش بسلام وأمان، وألا تكون حماية مصالحك على حساب مصالح الآخرين، وهذا هو تحديداً ما يفتقده الغرب منذ أن بدأ يصعد ويعلو على الساحة الدولية بقوة ساعده وسلاحه وعلمه، ذلك أن جل التحركات وحماية المصالح، كانت وما زالت بعيدة عن المبادئ والأخلاقيات والقيم الدينية والإنسانية وغيرها. غزة وإعداد القوة مفهوم إعداد القوة، وإن غاب عند غالبية جغرافياتنا المسلمة كما أسلفنا، إلا أنه اتضح كثيراً عند الأتراك في العقود الثلاثة الأخيرة، حتى رأيت قواهم تتنوع وتتسع وتزداد، وصارت تركيا اليوم مرهوبة الجانب بنسبة معقولة مطمئنة. تركيا اليوم تعامل الغرب بنفس منطقه، خاصة بعد امتلاكها الكثير من المؤهلات اللازمة للتعامل مع الأقوياء بنفس منطقهم، منطق القوة، وإن كان الفرق بينها وبينهم أن منطق تعاملها وفق مبادئها وقيمها المستمدة من عقيدتها الإسلامية. هي اليوم ربما قاب قوسين أو أدنى أن تصل إلى النقطة الآمنة، التي ستكون بعدها صاحبة قرار مستقل لا يعتمد على قرارات آخرين، إلا بالقدر الذي يحقق مصالحها بالدرجة الأولى. ولعل هذا سر امتعاض الغرب منها، وكثرة تحرشاتهم بها، ومحاولة عرقلة سيرها الجاد نحو التمكين. غزة مثال بارز آخر بعد الأتراك في مسألة إعداد القوة لإرهاب العدو. فما رأيناه حتى ساعة الناس هذه منذ بدء طوفان الأقصى المبارك، يدل على أن رجال المقاومة هناك اتخذوا مبكراً الآية الكريمة شعاراً لهم في استراتيجية التحرير ودحر العدو، والواقع الميداني يشهد على ذلك، فالأخبار والتقارير والمشاهد اليومية عبر وسائل الإعلام والتواصل المختلفة، تشرح لك ذلك بكل وضوح. إنك أيها المسلم في ختام هذا الحديث، حين تصنع سلاحك ودواءك وتنتج غذاءك، تكون ملكت قرارك واقتربت من نقطة التمكين، من بعد التوكل على الله وطلب العون منه سبحانه. أما أن تفتقد إلى كل تلك العوامل وتدعو بسذاجة واضحة للتعايش مع الأقوياء، وترفع شعارات التسامح وما شابهها من شعارات جوفاء، فكل ذلك يعني باختصار شديد أنك تدعو للتعايش مع أقوياء أو ذئاب العالم وفق منطقهم وشروطهم ورؤاهم هم، وكذلك وفق مصالحهم هم. خلاصة ما أريد الوصول إليه، إنه لا شيء معيباً أن تكون قوياً مرهوب الجانب ما استطعت إلى ذلك سبيلاً. تحمي بقوتك مصالحك المختلفة، وترهب بها أعداءك المتربصين، ليس من الاعتداء عليك فحسب، بل من مجرد التفكير بمباشرة الاعتداء. وأن يكون استخدام تلك القوة وفق عدالة السماء، وأخلاقيات الأنبياء، كي تعيش مرهوب الجانب بين الأقوياء. وما تكاتف العالم الغربي بقواه المتنوعة ضد غزة، ووقوفه المشين مع شذاذ الآفاق، إلا لشعور عميق بقوة المقاومة وخشيته من احتمالات تفوقها على ربيبته الخبيثة، وتحول المقاومة إلى ورقة صعبة الهضم. وهذا هو تمام هدف الآية الكريمة من دعوة إعداد القوة. أن يعيش المسلم معتزاً بدينه، مرهوب الجانب، مرفوع الهامة. ومن ينصر الله ينصره، ويثبت أقدامه.